دخلت الجارات الثلاث إلى خيمة العزاء، وما أن وقع بصرهن على زوجة المرحوم حتى ارتفع صوت
بكائهن نادبات نائحات ـ وقد تبارين في إظهار حزنهن على الفقيد، انهمرت دموعهن بغزارة.
أما الأولى .. فلم تكن دموعها سوى دموع التماسيح ـ لم تكن تحب جارها يوما، حيث كان مدرسًا
لأبنها ـ كان دائم الشكوى منه ناعتًا إياه بأسوأ الصفات .. إنه الأبله، الأرعن، المُخْفِق.
تسبب في حرمانه من الامتحان لاصطحابه بضعة أوراق يدالس منها الإجابات
كان قد تغاضى عن الأمر في البداية، لكن عندما سأله الولد في براءة بصوت مرتفع ..
عن إجابة أحد الأسئلة وهو يشير بإصبعه على أحد الأوراق ـ فأمسكه وأوراقه وإجاباته وسلمه إلى المدير.
حينها حدثت نفسها عن حقوق الجار وما أوصانا به رسولنا الكريم واستنكرت ما فعله جارها!
تلألأت في عينيها نظرة تشفٍ وقالت لنفسها : لم يُسكت قلبك فجأة إلا دعائي عليك
أذهب ـ لا أرجعك الله .. إلى جهنم وبأس المصير.
أما الثانية .. صارت تبكي بالتياعٍ، تذرف دمعًا سخينًا صادقًا، كانت في الحقيقة لا يربطها
أي صلة بالمتوفَّى .. فقد تشاجرت هذا الصباح مع زوجها مشاجرة عنيفة ـ واجهته
بما يشاع عن رؤيته مع امرأة أخرى في عدة أماكن عامة ـ تقلصت قسماته بذعر تغلب عليه في
سرعة ليزجج صوته في صدرها كنصل قاتل قائلا في تحدٍ وإصرار : نعم أعرف أخرى، أحببتها
وسأتزوجها .. وخرج صافقًُا الباب وراءه.
انتفضت فزعة ـ استندت على الباب وهى ترتعش, ولكنها تمالكت اختلاجات صدرها , وتماسكت
بقوة حتى لا تُشعر الأولاد بما يجري. ما إن سمعت بوفاة الجار حتى هرعت للتعزية
ولتنفس عن مشاعرها ـ فانفجرت في شهقات حارقة تنشج نشيجًا حادًا له حز السكاكين.
أما الثالثة .. فقد كانت تبكي بحرقة حبها الأول والوحيد ـ وهى لا تكاد تصدق أن رفيق الصبا
والشباب قد أصبح في ذمة الله .. جيران كانا من حيٍّ واحد.. لعبا معًا وهما أطفال ..
وشبَّا معًا, كان خيَّالُها .. فارسُها الذي لا ترى في الدنيا سواه .
وعندما كان يختلس منها قبلات سريعة تحت الدَّرْج ، كانت تهيم راسمة في أحلامها ثوب الزفاف
والطرحة، إلى أن أستفاقت على مضض عندما تزوج بأخرى وعاشا في بيت أهله تراهم كل يوم
وتكتوي بنار الغيرة.
عزفت عن فكرة الزواج حتى أصبحت كشجرة عجفاء يابسة لا فروع ولا عروق.
نظرت إلى زوجة المتوفى تخنقها العبرات وتصرخ منها الزفرات الحارة .. ترى ما الذي وجده فيك ليفضلك
على ؟! .. ولمَّا لم تجد فيها ما تتفرد به عنها مصمصت شفتيها في حسرة، ونظرت إلى جارتيها كأنما تشهدهم
على ما في عقلها فقالتا في صوت واحد .. الله يرحمه.
3/ 8 / 2015