مساء، داخل مرسمه المجهول، عبر نافذة عمارة تثقب الفضاء، يرسم ثورة أهل بلده في لوحة كبيرة. الناس من كل الشرائح الاجتماعية،
الصراخ يلامس السحاب، اللعاب يتطاير عبر أشداقهم، أعناقهم ممتدة إلى السماء. حبال حناجرهم تهتز وسط رقصات اللافتات. يحتجون، يرددون الشعارات، يحلمون بالجنة.
لما انتهى من لعبة الألوان، وقف أمام اللوحة يفسر الأفكار، يتحسس قلوبهم، يفتش مبادئهم. تخيل أن حوارا يجري بينهم في الخفاء.
أطل من النافذة مرة أخرى، دقق في الوجوه، وجدهم لم يعودوا إلى ديارهم، جسر الهموم يخيم على رؤوسهم. رآهم ما زالوا يتوسدون الأحجار والجوع يدق بطونهم.
عاد إلى اللوحة، خلق مسافة بينه وبينها. مشي ضاحكا فوق طموحه. ارتجت أفكاره، تراءت له رؤوس البشر كأنابيش بصل بري. شربت عيناه دخانا آت من أفق خادع، فتحدث الظلام الحالك عن فكره، عن نفسه.
ضحك فوق أنفاسه، انطلقت ضحكاته مجلجلة بين الجدران.
اهتزت اللوحة، انبعث دخان أسود من وسطها، سقطت على الأرض، تحولت إلى أشلاء رمادية. لسعته أنفاس صدره، لعبت الريح بعقله، مواقف شتى اختصمت في ذاكرته. رتل في نفسه نشيد الجنائز،
في هسهسة ميتة قال : لا أدري، هل تاريخنا يجيد الحوار أم النار؟
أطل الفجر ينبئ بالنور. من سطح عمارة شاهقة، برشاش مستورد ــ وبانتشاء كبيرــ شرع يقطف جذور الثورة.