القصة القرآنية
أولاً-ماهية القصة القرآنية
القصة القرآنية أحد فنون القول التي اعتمدها القرآن الكريم لعبر وعظات يستفسد منها الإنسان في مسيرة حياته ، وللتدليل على صدق هذا القرآن وأنه من عند الله تعالى ، وإذا كانالقرآن الكريم كتاب هداية، وهذا هو الأصل فيه، فإن كل ما ورد فيه من توجيه وما اشتمل عليه من منهج وما تميز به من أسلوب إنما يهدف إلى تحقيق تلك الغاية، ولذا فلا يمكننا أن نطبق المعايير البشرية المتعارفة على كتاب الله تعالى، ولو طبقت تلك المعايير عليه لانتفت الخصوصية القرآنية، وهي خصوصية متميزة في :
1-الأسلوب،
2-وفي القصة،
3-وفي النظم،
4-وفي التصوير،
5-وفي المنهج.
والقصة في القرآن ليست قصة بالمفهوم الأدبي المتعارف عليه عند كتاب الرواية، ولا يمكن أن تكون كذلك، فالقرآن ليس رواية، وليست غايته سرد حادثة، وإنما غايته تحقيق هدف ينسجم مع رسالة القرآن ..
وما يقصه القرآن من أخبار الأنبياء السابقين والأمم السابقة إنما يراد به 1-العبرة والعظة،
2- تأكيد منهج الدعوة
3-واستمرارية هذا المنهج،
4- تصحيح الأحداث التاريخية
5-وضع تلك الأحداث في إطارها الصحيح،
وما ذلك إلا للتأكيد على أن أنبياء الله واجهوا تحديات وصعوبات وصبروا، ولم يضعفوا أو يستسلموا، وتابعوا طريقهم من غير تردد،
1-مدافعين عن الحق
2-رافعين لواء الإيمان بالله،
3-مطالبين بتصحيح مسيرة الإنسان،
4- مبرزين عظمة الفضيلة في السلوك الإنساني.
والقصة في القرآن خبر عن أمم سابقة، وهو خبر عن غيب ولا يمكن أن يعلمه إلا من أوتي سعة من علم، وجاء الوحي بها، لتأكيدها وإقرارها وتصحيحها، وما كان أهل الجاهلية يعلمون إلا القليل من أخبار الرسل والأمم، ولا بد أن ما علموه دخله التحريف والتزوير والتشويه حتى أصبحت الحقيقة ضائعة، وجاء القرآن لكي يؤكد الواقعة، ويصحح الحدث، ويشير إلى العبرة، ويقود الإنسان إلى أن يكتشف بنفسه ما أراده القرآن من حتمية انتصار الإيمان على الكفر، وانتصار الخير على الشر. والمحور العام الذي تدور حوله القصة القرآنية يتمثل في المبادئ الأساسية التي تقوم عليها الدعوة الإسلامية، من
1-إيمان بالله
2-ورفض لكل مظاهر الكفر والشرك،
3- ومحاربة الظلم في المجتمع،
4-وتشجيع الفضيلة،
ومنطق الأنبياء واحد، ومنهجهم متماثل، ومنطق أهل الكفر والظلم أيضا واحد، في جاهلية مستمرة يصحح مسارها رسل الله في كل حين. قال تعالى: { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ } [الأنعام: 33 - 34]. وقال تعالى: { وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ} [الحج: 42 - 44]. وهذه الآيات واضحات بينات على أن القصص القرآني كان يراد به 1-تشجيع النبي صلى الله عليه وسلم وتقويته لكيلا يضيق بكفر أهل الجاهلية وبتكذيبهم لدعوته، وألا ييأس من النصر، فهذا هو طريق الأنبياء والرسل، وهو طريق جهاد وصبر وهو محفوف بالأشواك والآلام والأحزان، ولكن النصر في النهاية لهم، لأن الله ناصرهم ومؤيدهم. وقال تعالى: { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } [يوسف: 110].
2-ولا شك أن القصة يراد بها أولا النبي صلى الله عليه وسلم، ويراد بها ثانيا أصحابه ومن جاء بعدهم من المسلمين، لكي يعلموا جيدا منهج الإسلام. قال تعالى: { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ } [القلم: 48 - 49].
3-والقصة في القرآن تساق لغاية معينة، ولهذا يذكر من عناصر القصة ما يخدم تلك الغاية، ويحقق الغرض من إيراد القصة فالزمن لا يذكر غالبا إلا عند ما يمثل الزمن عنصرا من عناصر التعبير والتصوير، كقوله تعالى في حالة إخوة يوسف:
{ وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ } [يوسف: 16 - 17].
4-وتصور القصة في القرآن الحدث وكأنه واقع فعلا، وتهيئ الأسباب النفسية لكي ينفعل القارئ بالحدث، ويعيش معه، ويراه أمامه كمشهد حي ناطق، وليس مجرد صورة جامدة ميتة،
5-ليست الغاية القصة ولا المشهد وإنما الغاية إيراد قصة أو مشهد منها للتعبير عن معنى معين ينسجم مع أغراض القرآن في
أ-إبراز الصراع الدائم بين الحق والباطل،
ب-وتصوير حالة المشركين والطغاة وهم يدافعون عن مواقعهم أمام دعوة الأنبياء التي تهدف إلى تحرير المفاهيم الإنسانية وتصحيح العادات والقيم الاجتماعية، وخلق الإنسان يليق بخلافة الله في الأرض، فلا يطغى ولا يظلم ولا يذل ولا يسقط في هاوية الضلال ؛ وإن القصة الواحدة في القرآن الكريم قد يكون فيها أكثر من موطن عبرة وأكبر من جانب استشهاد، فلا غرو إذن أن تذكر في المناسبة التي يُرادُ الاستشهادُ لها أو الموطن الذي يراد الاتعاظ به، وأن يبرز منها ما يراد الاعتبار أو الاستشهاد به ويسلط الضوء عليه. وهذا شأن القصص القرآني، فأنت ترى أن القصة في القرآن كأنها تتكرر في أكثر من موطن، والحقيقة أنها لا تتكرر ولكن يعرض في كل موطن جانب منها بحسب ما يقتضيه السياق، وبحسب ما يراد من موطن العبرة والاستشهاد. إن قصة موسى مثلاً فيها مواطن عبر كثيرة ومواطن استشهاد متعددة منها:
1- بيان أن قدر الله ماضٍ لا محالة وأنه لا يستطيع أحد أن يغيره أو يرجئه مهما حاول واتخذ من أسباب ووسائل، ويتجلى ذلك في قتل فرعون أبناء بني إسرائيل حذراً من ظهور الشخص الذي يزيل ملكه منهم، إلا أنه ربي في حجر الشخص الذي كان مُقَدَّراً له أن يُزيلَ مُلْكَهُ.
2-بيان عاقبة الظُلم والظالمين، ويتجلى ذلك في نهاية فرعون النهاية الوبيلة.
3-بيان لنفسية الشعوب المستضعفة المُستذَلَّة ولِتَكوُّنِها والسبل التي ينبغي أن تسلكها لتتحرر. ويتجلى ذلك في ذكر نفسية وتكوين بني إسرائيل الذين تربوا على الذلة والجبن والخنوع وذكر عنادهم وصَلَفِهم وجُبنهم وحبهم للدنيا، ومحاولة سيدنا موسى إعدادهم إعداداً آخر يرفعهم من وهدة الوحل الذي يتمرغون فيه، فلم يستجيبوا له حتى قضى الله عليهم بالتيه أربعين سنة أهلك فيها هذا الجيل وأخرج جيلاً آخر لم يتكون مثل هذا التكوين الذليل ولم ينشَأ تلك النشأة المهينة.
4- بيان أن الحق له السلطان الأعظم على النفوس إذا ما عرفته وآمنت به، وأنه ليس بوسع أيّ أحد أن يحول بينها وبينه مهما اتخذ من وسائل إغراء أو تهديد، ويبدو ذلك في إيمان السحرة بموسى وفي دخول الحق بيت فرعون أعني إيمان امرأة فرعون ، فذكر في كل موطن ما يقتضيه السياق منها. ولذا نراه لا يذكر القصة على صورة واحدة بل نراه يذكر في موطن ما يطوي ذكره في موطن آخر، ويفصل في موطن ما يوجزه في موطن آخر، ويقدم في موطن ما يؤخره في موطن آخر. بل تراه أحياناً يغير في التعبيرات ونظم الكلام تغييراً لا يخل بالمعنى. كل ذلك يفعله بحسب ما يقتضيه السياق وما يتطلبه المقام وذلك في حشد فني عظيم .
ثانياً-أهداف القصة في القرآن الكريم :
لا يخفى على أحد ما تدل عليه أخبار الأمم مع أنبيائها ، ووقائع الماضي البعيد الذي عفت عليه الأيام ، وذهب بعلمه ومعرفته، فالقصص عن الأمم السابقة معجزة بينة ، وحجة حاسمة من دلائل علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله ، كما أنه دروس و عبر ، وحكم بأنباء السابقين أيما عناية ، وبث هذه الأخبار فى ثنايا دعوته ، ولتأييد حججه وبيناته. وللقصة فى القرآن أهداف :
1- أن القرآن وحي يوحى من الله تعالى : وذلك لأن علم الماضي قد ذهب واندثر ، والنبي صلى الله عليه وسلام أمي لا يقرأ ولا يكتب وقومه كذلك ، ولا خالط أحداً من أهل العلم بالكتاب السابق ولا تلقّى عن أحد منهم شيئا قط ، فكان كما قال تعالى في وصف القرآن : { مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه }.[ ] مع أن علماء أهل الكتاب كانوا يخفون تلك العلوم التي عندهم ولا يطلعون أحد اًعليها ، فدل ذلك القصص على أنه لا يمكن إلا أن يكون تلقيا من عالم الغيب والشهادة الذي يعلم السر في السموات و الأرض . وقد ذكر القرآن الكريم هذا الوجه من الإعجاز ، وصرح به في مواضع متعددة ، تأكيدا لإعجازه ، وتأكيدا لتحدي المرتاب الشاك ، والمنكر المعاند. فتجده عقب ذكر قصة مريم و كفالة نبي الله زكريا لها يقول : { ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون } [ ] ، ويقول في سورة هود : { تلك من أبناء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين } [ ] ، كذلك يقول في سورة القصص عقب قصة موسى عليه السلام : { وماكنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو آياتنا ولكنا كنا مرسلين . وما كنت بجانب الطور إذ نادينا و لكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون } [ ] . فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أميا لم يقرأ كتابا قط ، ولا تعلم من عالم قط ، وقومه كذلك أميون ، وهو لم يشاهد تلك الحوادث ولا التقى بشخصيات تلك الوقائع التي قصها القرآن ، بل قد تعرض للامتحان فيما يأتي به قصص الغيب الماضي ، فطرح عليه أهل الكتاب أسئلة مما يعلمونه مغيبا عنه فسألوه بواسطة أهل مكة عن (أهل الكهف والروح وذي القرنين)، فأجابهم عن ذلك بدقة وتفصيل،
2-بيان أن الله تعالى ينصر أنبياءه ورسله في النهاية ، ويهلك الكافرين المكذبين ، ولا يخفي ما في ذلك من تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وتقوية نفوس المؤمنين وزجر الضالين المعاندين وزحزحتهم عن مواقفهم ، فتتأثر النفوس كل نفس بحسب ما تحتاج إليه ،إذ يتوالى عليها بيان نصر المؤمنين ، وخذلان الكافرين ، وإحقاق الحق وإزهاق الباطل ويتكرر رفع راية العدل ، ومحق قوة الظلم من خلال وقائع القصص التي يذكرها القرآن ، بل بما يقع فيه من التصريح بهذا التنبيه ، وإثارة هذه القضية ، في كثير من مناسبات القصص . تأمل هذه الآيات تعقيبا على قصص الأنبياء في سورة هود : { ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم ،,وحصيد . وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك و ما زادوهم غير تثبيت، وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد} ، وفى سورة غافر يقول تعالى عقب قصة موسى وفرعون ومؤمن آل فرعون وإنجاز الله لموسى وعده وإهلاك فرعون : { إنّا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا و يوم يقوم الأشهاد ، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار } [ ]
3- بث المعاني الدينية الواضحة ، وترسيخ قواعد الدين ، بما يقع في ثنايا القصص من حوار ، ومواعظ وحجاج، يصغى إليها السامع ويتابعها القارئ ، . تأمل ما يلقيه مؤمن آل فرعون لما خشي على موسى من طغيان فرعون وبطشه : { وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبيّنات من ربكم .}...الآيات إلى آخر القصة في[ سورة غافر ] . ففي قصة موسى مع فرعون هنا برزت التوجيهات على لسان الرجل المؤمن يقرر أموراً على غاية الأهمية وهي جميعها معانٍ دينية ، وتوجيهات صريحة تضمنها الحوار القصصي ، مما يجعل وقعها في النفوس أبلغ وأعمق.
ثالثاً-طريقة القصص في القرآن الكريم
لما كانت القصة في القرآن تهدف إلى مقاصد دينية وإيمانية كانت طريقة القص في القرآن متميزة عن المألوف في هذا الفن ، لكي يتلاءم أسلوب عرض القصة مع الوفاء بحق الغرض الذي سيقت لأجله ، ومن أبرز سمات طريقة القرآن في القصص ما يلي :
1- القصة لا ترد في القرآن بتمامها دفعة واحدة: بل يقتصر على الجزء الذي يناسب الغرض الذي تساق القصة لأجله ، كما يكتفى بالجملة من الآية أو شطر البيت من الشعر للاستشهاد به. وهذا الجزء الذي يذكر إنما يذكر بالحدود الملائمة للغرض كذلك . فقصة موسى مع فرعون في سورة غافر وردت في جو كأنه جو معركة ، لأن فيها بيان الصراع بين الحق والباطل ، والمعركة بين الإيمان والكفر واحتيال فرعون للتهرب من دلائل الحق و براهينه إلى أن تأتي نهايته بالهلاك : { فوقاه الله سيئات ما مكروا و حاق بآل فرعون سوء العذاب } [ ] ، فكان الختام ملائما لجو السورة ، كما أنه في الوقت نفسه ختام فني رائع لذلك المشهد الذي يبرز فيه فرعون وقومه قد حل بهم سوء العذاب : { النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ...} [ ]
2-استخراج التوجيهات والعظات : والإعلان بها في القصة وختامها ، مما توحي به القصة من العبر و الدروس . ففي قصة لقمان مثلا : { وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم } [ ] . يأتي البيان القرآني بتعقيب على هذه الموعظة بقوله تعالى : { ووصينا الإنسان بوالديه .. الآيات ..} [ ] ، فهذه وصية لقمان الأولى ليس من كلام لقمان . بل هو من كلام الله تعالى يوجهه سبحانه لعباده لمناسبة وعظ لقمان ، يحقق غرضين كبيرين :
أ-التأكيد على وصية لقمان ( لا تشرك بالله ) ببيان أنه أعظم الحقوق ، وأنه لا يجوز التساهل إزاء قضية الإيمان وتوحيد الله تعالى لأي اعتبار ، ولو كان هو حق الوالدين البالغ غاية التقديس .
ب-تأكيد حق الوالدين ، وبيان أنه أجل حقوق العباد على الإنسان ، وأقدس واجبات الإنسان تجاه الإنسان لكنه مع ذلك لا يقاوم حق الله تعالى . ومن ذلك ما نقرؤه في ثنايا حوار موسى ومؤمن آل فرعون ، فموسى يقول : { إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب } [ ] . وهذا يشير إلى فظاعة من اتصف بذلك ، وفى ثنايا كلام مؤمن آل فرعون : { إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب } [ ] : { كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار } [ ] . وتقرأ في سورة غافر هذا التعقيب على القصة وكأنه استنتاج من وقائعها: { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار } [ ] .
ج-التكرار : والتكرار خاصة من خصائص أسلوب القرآن الكريم بصورة عامة ، وهو في طريقة عرض القرآن الكريم للقصة جزء من تلك الطريقة . ولهذا نجمع بحث هذه السمة لنلخص بحثها في هذه المناسبة في فقرتين : ( تكرار القصة في القرآن ، تكرار العبارات في القرآن ).
1-تكرار القصة في القرآن :
إن إطلاق كلمة تكرار هنا فيها كثير من التسامح والتساهل ، وما يعرضه القرآن من أحداث مع نبي من الأنبياء مع قومه في أكثر من موضع هو ليس تكرارا بالمعنى الحقيقي ، إنما هو استشهاد بالقصة لأغراض متعددة ، لذلك لا نجد القصة تعاد كما هي ، وإنما يذكر الجزء المناسب للغرض والقصد الذي اقتضى الاستشهاد بالقصة باستعراض سريع . أما جسم القصة فلا يكرر إلا نادرا ، ولاستنباط دروس وعبر جديدة منه مما يجعله على الحقيقة غير مكرر. وهكذا وردت قصة آدم في القرآن لتثير العبر حول خطر اتباع الهوى ومخالفة أمر الله تعالى ، وضعف الإنسان أو توبته وقبول توبته وهكذا . كذلك وردت قصة إبراهيم في نحو عشرين موضعا تثير في كل موضع عبرة ودرسا ، في التوحيد ، أو تأسيس البيت العتيق ، أو الأذان في الحج ..إلى آخر ما هنالك . وهكذا تكررت قصة موسى ، مع فرعون ، ومع قومه، ومع نبي الله شعيب في مدين .... وفي كل موضع عبرة وعظة وحكمة و دروس ....
2-تكرار العبارات في القرآن :
هذا القسم من التكرار يبرز بعض خصائص أسلوب القرآن ، وأسرار بلاغته المعجزة ؛ فتارة يكرر الجملة أو العبارات بنصها دون تغيير فيها ، لما في ذلك من التأكيد ، أو التهويل ،أو التصوير ، وكل ذلك له أثر عظيم في تعميق المعنى في النفس وصدعها عما تصر عليه ويظهر سورة ذلك بوضوح بالمثال الذي يتبادر للذهن أول شيء لدى ذكر التكرار ، وهو سورة الرحمن التي تكرر فيها كثيرا قوله تعالى: { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [ الرحمن : ] . فإن هذه السورة تعدد للمنكرين نعم الله عليهم وكل نعمة تؤكد على وجوب الانقياد لله تعالى شكرا له . وخضوعا لعظمته . لكنهم كفروا هذه النعم فوضعوها في غير موضعها ، وكفروا بالنعم وأشركوا بها غيره فعبدوا الأوثان والشركاء ، فجاءت سورة الرحمن تحاجّهم على كل واحدة منها بالحجة الملزمة ، وهكذا بالتعداد المفصل لتلك النعم و الدلائل حتى تزحزح المعاند عن عناده ، وترسخ في أعماق النفس الشعور بوجوب شكره تعالى ، فعقب ذكر كل واحدة من النعم والدلائل وتارة يكون التكرار مع اختلاف في نظم الجملة ، أو إيجاز أو إطناب أو نحو ذلك ، وذلك يبرز سرا من أسرار إعجاز القرآن ، وهو التعبير عن المعنى الواحد بأكثر من أسلوب دون أن ينال تكرار المعنى من سمو الأسلوب وإعجازه . بينما لا يخلو كلام البشر في مثل هذا الحال من تفاوت بين الأسلوبين واختلاف مستوى الأداءين . وذلك من جملة تصريف البيان في القرآن في مناسبات متعددة. كقول تعالى : { وكذلك صرفنا فيه من الآيات وليقولوا درست ..} [ ] ، وقوله تعالى : { وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا } [ ] وحقيقة التصريف : ( إعادة اللفظ أو مرادفه لتقرير معنى ، خشية تناسي الأول لطول العهد به ) وبهذا التصريف المعجز حقق القرآن هدفا عظيما هو خطاب الناس كافة ، من تكيفيه الإشارة والمجاز من القول، ومن لا يسد خلل فهمه إلا التفصيل وهكذا تنوع أسلوب القرآن .وقد لفت هذا التصرف المعجز أنظار البلغاء وراحوا يكشفون ما في كل موقع من سرّ بلاغي ، وإعجاز بياني ، حتى في الكلمة الواحدة تختلف بها العبارة من موقع إلى موقع ، ونشأ عن هذا العرض الأخير فن هو (متشابه القرآن اللفظي ) قال تعالى في سورة الأنعام : { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم }[ ] . وقال في سورة الإسراء : { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم و إياكم } [ ] . فالسؤال هنا : ضمير المخاطب { نحن نرزقكم } [ ] . وفي الثاني ضمير الغائب : { نحن نرزقهم..} والجواب عن هذا من أكثر من وجه نذكر منها ما يختص بالمعنى : أن الآية الأولى تحرم قتل الأولاد الذي يدفع إليه الفقر النازل فعلا بالآباء كما قال { من إملاق } [ ] . فناسب لذلك تقدم ذكر الآباء لأنهم هم الذين يعانون الفقر فعلا ، وهو يدفع بعضهم للتخلص من أعز شيء عليه ، فكان الملائم للمقام هنا تقدم ذكر الآباء. أما في الآية الثانية : فتحرم قتل الأولاد الذي يدفع إليه خوف الفقر في المستقبل { خشية إملاق } [ ] لتضاعف مسؤوليات النفقة بسبب الأولاد . فناسب لذلك تقدم ذكر الأبناء (نحن نرزقهم ) لضمان مستقبلهم من الله وإزاحة هذا التخوف والوسواس الذى تحرك في القلب بسببهم ولذلك أمثلة كثيرة أتى في دراستها العلماء بروائع الإعجاز القرآني .
رابعا - أسلوب القصة الفني في القرآن :
وأسلوب القصة في القرآن جزء من أسلوبه المعجز بخصائصه العامة . لكنا هنا تقف على جديد في الأسلوب هو تجاوب أسلوب القص الفني في القرآن أحدث فنون القصة , فأنت واجد في قصص القرآن مقومات القصة الفنية من تمهيد وعرض أحداث وعقدة وحل للعقد ، ثم خاتمة ونهاية للقصة . بل تجد في قصص القرآن مالا يخطر على بالك ، ذلك هو خصوصية المسرحية والأسلوب التمثيلي حتى إن القصة في القرآن ليمكن أن تعرض مسرحيا دون أي تعديل فيها وذلك مالا يتأتى في غيره من القصص إلا أن تكون قد كتبت وأعدت إعدادا خاصا لهذا الغرض .ومن يتأمل ما ورد في هذه سورة غافر من حوار موسى مع فرعون وجد مصداق ذلك في تلك الآيات فقد ذكرت هذه السورة من قصة موسى مع فرعون ما يلائم غرض السورة العام وهو معالجة قضية الحق والباطل ، وبدأت أولا بهذا التمهيد : { أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم } [ ] فتهيأت الأذهان بهذا التمهيد للقصة التي جاءت بمثابة المثال التطبيقي لهذه القاعدة الكلية التي مهدت بها السورة. ثم جاءت العقدة مبكرة وقد تأتي في مواضع أخرى متأخرة عن مثل هذا الموقع والعقدة : { وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه...} [ ] . وهنا يأتي دور مؤمن آل فرعون الذي كتم إيمانه من قبل. لكنه الآن يرى الواجب يدعوه لقولة الحق ، فتصرف بما يوجبه عليه الوقف بحكمة وتبصر . ودار الحوار وسط تشوق العقل لمعرفة النتيجة وكيف حل العقدة التي لم تتأثر بهذا النطق السديد الحكيم ، فكان الحل أخيرا بهذا الأخذ الإلهي : { فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب ..} [ ] . وكان بعد حل العقدة انتهاء القصة بمشهد ختامي رائع ، هو مشهد الطغاة الجبارين يذوقون أليم العذاب : { النار يعوضون عليها غدوا وعشيا } [ ] إلى آخر الصورة وما فيها من اختصامهم في النار ....ونلمح في القصة خصوصيتين من خصائص فن القصص المسرحي:
ا-الاعتناء بفن التصوير ، وبظهر هنا واضحا في رسم الشخصيات
فشخصية موسى تظهر هنا بصورة ذلك النبي الواثق بقضيته فهو يواجه تهديد فرعون باللجوء إلى الله تعالى ، وشخصية الرجل المؤمن تبدو من خلال الحوار شخصية الحكيم الذي يتبع النطق المعقول ، مع إثارة عواطف قومه بالنداء التكرر { يا قوم ...، يا قوم... } [ ] ، وشخصية فرعون تبدو بجبروتها و خبثها وإصرارها على الباطل ، يقابل دعوة الحق بسفك الدماء ، ويواجه النطق المفحم بالحيلة و الدهاء: { يا هامان ابن لي صرحا لعلى أبلغ الأسباب ..} [ ] .
2- حذف الثغرات بين الوقائع : مما لا حاجة إليه لفهم القصة ، بطريقة فنية عجيبة اخترق بها قصص القرآن أستار القرون ليأتي متلائما مع العرض التمثيلي الذي نما في هذا العصر إلى أبدع أسلوب وصل إليه الأدب. فتجدنا مع قصص القرآن ننتقل من مشهد إلى مشهد ، كما كنا أمام القضية تعرض علينا صورا . فمن مشهد إرسال موسى ودعوته فرعون وتهديد فرعون بالقتل ، إلى مشهد مجلس خاص بين فرعون وحاشيته يبرز فيه آل فرعون حيث يدور بهم سوء العذاب في ختام القصة. ومن تأمل سائر قصص القرآن تبين له ما عرضناه هنا ، وتذوق إعجاز أسلوب القرآن في القصة ، وزاد إحساسه بذلك إذا لاحظ البون الهائل بين القصة في الأدب العربي وآداب العالم في عصر نزول القرآن وما تطور إليه فنها في العصر الحديث
خامساً- العقيدة في أسلوب القصة
والقصة جمعها قصص بكسر القاف، وهي من قصص، والفعل قص، والمصدر قصص بفتح القاف قال تعالى: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ …} [ يوسف/3 ] , والقَصص بفتح القاف إما مصدر بمعنى الاقتصاص أي نحن نقص عليك أحسن الاقتصاص هذا القرآن بإيحائنا إليك والمراد بأحسن الاقتصاص أنه اقتص على أبدع طريقة وأعجب أسلوب، ألا ترى أن هذا الحديث مقتص من كتب الأولين وفي التواريخ، ولا ترى اقتصاصه في كتاب منها مقاربا لاقتصاصه في القرآن. أو بمعنى المقصوص أي نحن نقص عليك أحسن ما يقص من الأحاديث، وإنما كان أحسن لما يتضمنه من العبر والحكم والعجائب { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَاب..} [ يوسف/111] ، ويشتق القصص من قص أثره إذا أتبعه لأن الذي يقص الحديث يتبع ما حفظ منه شيئا فشيئا كما يقال تلا القرآن إذا قرأ، لأنه يتلو أي يتبع ما حفظ منه آية بعد آية.


المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)