صحوة موت
صعد إلى الحافلة وترك الجريدة على مقعد الانتظار مفتوحة على خبر وفاة زميل دراسته – ولكن ظل الخبر يتردد في جنبات عقلة (مات ) انتهت حياة رجل كان كتلة من النشاط و الحيوية .
انتابه فجأة خوف ورهبة من ذلك المجهول – وأخذت تتصارع في دواخله نوازع مشوشة – تعجب من نفسه لم كل هذا القلق و الهلع الذي أصابه!
– تراءت أمامه صورة والدته التي ظلت سنتين مسجاة على السرير فاقدة النطق و الحركة إثر مشاجرة مع والده ترك بعدها البيت و تزوج بأخرى راميًا عشر سنوات طويلة وراء ظهره ..تساقطت دموعه كحجارة تهوى من قمة جبل وهو يتذكر كم تعذبت وكم عانى هو من ألم وهو يشاهدها تتصارع مع المرض وعندما رحمها الله بالموت كان لاشعوريا قد قرر أن يبعد نفسه عن كل الانفعالات التي قد تهلكه – تعايش محيطا نفسه بصندوق ثلجي مجمد المشاعر فلا صديق ولا قريب أو حبيب .. لم يهتم لهمسات زملائه في العمل عن غرابة تصرفاته .المهم أن يبتعد عن كل انفعال قد يضره .
اليوم فقط ... اكتشف أن الموت قادم
كان ينظر من نافذة المركبة التي تقله وقد أخذت المناظر تتوالى عليه فكأنه يراها لأول مرة –
نفس الدروب التي يسلكها كل يوم – لكنها اليوم لها شكل آخر في عينيه - الناس و المحلات .. الأرض و السماء و الشجر – بدأ البريق يتلألأ على كل المشاهد التي تمر أمامه ويلونها بألوان الطيف – كان يرى الدنيا التي لم يعشها يوما .
بكل المشاعر المتباينة ظلّ طوال الليل يسترجع شريط حياته – ينابيع حزن جثمت على قلبه وهو يكتشف كم هي حياه بائسة ، فارغة ، فقيرة – ثم أشرق فجأة نور أضاء ظلمات روحة المنهكة .
في اليوم التالي يجلس عبد الرحيم على مكتبه وقد أصبح إنسانا آخر .. ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة وسلم على زملائه وحيّاهم فاستغربوا ماشاهدوا وبدأت همهماتهم بالتساؤل .
شجعت ابتسامته سلمى زميلته في المكتب على أن تسأله في أمر متعلق بالعمل رفع عينيه فأحس عندما رآها إنه يراها لأول مرة مع إنهما يعملان معا منذ سنوات وسرح في عينيها العسليتين ووجنتيها الموردتين وامتلأ الجو بأصوات العصافير و البلابل .
قالت تنبهه وقد تسمرت عيناه عليها : أستاذ عبد الرحيم .....................
انتفض قلبه لسماع اسمه بهذا الصوت الحنون – فتطايرت الأتربة المتراكمة فوق القلب منذ سنوات أهاجت جهازه التنفسي فدفعت الهواء المغبر بقوة فعطس .................... وتناثر الرذاذ من فمه ليصيب وجه زميلته – رغما ضحكت ضحكة رنانة صاعدة من قلب جزل أطارت بما تبقّى من صوابه .
متلعثما ناولها منديلا وهو يعتذر بكلمات أثارت ضحكاتها أكثر ليذوب ما تبقّى من جليد في عبد الرحيم ولتتركه قواما هلاميا ليس له ملامح .
التفّ باقي الزملاء حول عبد الرحيم متسائلين في تعجب : أأنت بخير أستاذ عبد الرحيم ؟
التهب وجهه احمرارا وانفعالا وقد سكر قلبه برحيق نشوة ساحرة : وقال نعم نعم ........وإذا به يقف فجأة ويذهب مهرولا .
- إلى أين أستاذ عبد الرحيم ؟
-ّسآتي حالا.... فطوركم اليوم هدية مني .
أسرع عبد الرحيم طائرا سعيدا وقد ارتفعت في أعماقه يد الغبطة تدق قلبه – يرى بعين الحلم نفسه عريسا وسلمى معلقة في يديه بالفستان الأبيض و الدفوف حولهما تزفهما
.بووووم ... سمع كل من في المبنى الإداري صوت ارتطام فظيع ،وشقت صرخة مدوية الفضاء فهرعوا جميعا إلى الشرفات ليروا عبد الرحيم مسجى على الأرض وقد ارتطمت به سيارة مسرعة فدهسته وأحلامه الوليدة .
الخميس 9/10/1014