صمت
كنت حريصاً على التزاماتي الرتيبة؛ كي أنحت ما تيسر من وجودي، على شرفات السوق المشرعة على ضجيج الوجع؛ يبدو المشهد من أعلى مثل لوحة سريالية؛ ضجيج صامت، عربة يجرها حمار، رضيع يتعثّر بثدي امرأة انطفأ الكحل في عينيها، شباب يقفون قرب البوابة، رافعين ياقات قمصانهم في زهو، بناطيلهم مثبتة بإحكام عند منتصف استهم، فتيات يتدثّرن بملاءات سود، دمى تلملم أعطاف حلم الأطفال، راقدة فوق متاريس السوق، مجنون يردّد خطيئته في موجة غناء منذ ألف عام، شيخ يمسّد طرف عصاه، يخثّر عينيه رعب صرخة قديمة، صدى موهوم لموكب ملكي، محاط بحاشية تردّد تراتيل الخراب في صمت هامد؛ الشارع يمشي تحت أقدام الحفاة، يفرش موائده، يرسم خطى التيه فوق تقويم بائد؛ الجميع يحلّق في برد الصمت؛ يهبط المساء بشفقه الأحمر، ينشر أشرعة انفجار موشّى بالتكبير، يمزّق أذني، يخرسني ذهول انفجار آخر، يتضخّم، يصير وحشاً، ينحر نذور اليوم في طقس ذليل، ينكسر حاجز الصمت، يحلّق العويل والصراخ مع ارتفاع الدخان في سماء ملبّدة برعب وحشي؛ تمطر شظايا وأعضاء بشرية، تجلد أحلاماً ميتة؛ أقف على تلّ الحطام فزعاً، ذراع يلّوح بالوداع، كتف ما زال يحمل صرة الهموم، صدر عارٍ إلّا من قبلات أمّ وتميمة بائسة، ثياب ممزّقة، تبحث عن جسد أدمنت رائحته، شفاه منهمكة بالتسبيح، العيون غائرة في محجر الحريق؛ أحضنها باكياً، أصلي من أجلها، أحتمي بجذع نخلة مقطوعة الرأس، أدوّن نافلة الحرائق، أسترق النظر إلى وجه المساء، يرتبك، يندسّ في معطف غروب متوهج بظلمة الأجداث؛ تُجمع الأشلاء قرب الرصيف، تبدو كما الدمى المشوّهة، مغطّاة بأسمال الرماد. أهرب بعيداً لعلّي أدرك الوضوح.
الرصيف ينحني خجلاً، يتمرّغ بالدم والوحل، يذرف دموعه فوق الأشلاء المتناثرة، يتقوّس دهشة وسط ظلمة طافحة بالبشاعة؛ بينما الشارع يتلّوى في متاهته، يمضي بعيداً، مشتعلاً بلهب أحمر، فارشاً موائده في ظلّ مواكب الصمت.