 ما أُضيف إلى نواة النظرية العروضية دون الخروج عليها، أو إلى غلاف النواة، يُحسب بالعموم لصالح صانع النظرية:

ها هنا أمر مهم يجب أخذه بالاعتبار قبل متابعة الإبحار في الكتاب الأم لعروض قضاعة، وهو أمر متعلق بمناقشة صاحب عروض قضاعة لتفاصيل نظام الخليل. فكتاب الخليل رحمه الله الذي يشرح فيه نظريته العروضية ما زال مفقوداً. وأقدم كتاب وصلنا يتحدث عن نظام الخليل هو كتاب العروض للأخفش [ت/ 221 هـ على أبعد تقدير]، ومع ذلك فقد وصلنا وفيه خرم أخل بالجزء الأعظم منه (1). وبذلك يحتل كتاب العروض للزجّاج [ت/ 311 هـ]، المرتبة الأولى في علم العروض الخليلي لكونه أقدم كتاب وصلنا شبه مكتمل. هذا عدا عن تأثر الزجّاج نفسه بالأخفش. (2)

(1)، (2): (1): راجع تقديم سيد البحراوي لكتاب (العروض للأخفش)، وكذلك تعليق أبا ستة حول ذلك في مقدمة تحقيقه لكتاب (العروض للزجّاج). (2): راجع (كتاب العروض للزجّاج)، تحقيق د. سليمان أبو ستة، تحت عنوان: (كتاب العروض للزجّاج وأثر الأخفش فيه).

وسوف نضرب مثالين يمهّدان للمقصد من طرح هذا العنوان. ثم ندير الحديث بعد ذلك عن علاقة هذا الأمر بنظام قضاعة وبهذا الكتاب الأُم لعروض قضاعة. فالمثال الأول نضربه على مبتكر أول سيارة. فإذا جاء الذي بعده فأضاف لها زجاجاً أمامياً يصد الرياح دون أن يعيق الرؤية، ومصابيح كاشفة ليمكن السير بها ليلاً، وغمازات ليستطيع سائقها إعلام مَن خلفه بنيته للانعطاف يميناً أو شمالاً ليأخذ حذره، فصارت هذه الإضافات بعد ذلك ضرورة لازمة تُمنع بدونها السيارة من السير على الطرقات العامة.
فمع عدم التقليل من شأن هذه الإضافات، ومن شأن الأشخاص الذين أضافوها؛ لكن هذه الإضافات لا تنزع أحقيّة مخترع السيارة الأول بنسبة اختراع السيارة له. لأنها إضافات لم تمس نواة الاختراع. فإذا كان (كارل بنز) هو صانع نواة السيارة، وعلى فرض أنّ (مايكل) أضاف لها مصابيح لتسير ليلاً، فهذه الإضافة على النواة لن تجعل المجيب على هذا السؤال: من هو مخترع السيارة..؟ ينصرف ذهنه حين الجواب إلى مايكل. أمّا لو كان السؤال: من أول من وضع المصابيح للسيارة لتسير في الليل..؟ فحينها يجوز أن ينصرف الذهن إلى مايكل ولا علاقة لكارل به. فمهما بلغ من عمق التطوير على النواة دون المساس بها، تظل النواة ملكاً لصاحبها فتُعرَف به.
والمثال الثاني هو أنه إذا وُجِدت جزئيات من نواة عِلم في نواة عِلم آخر، ثم بعد ذلك افترقت النواتان، فهذا التشابه لا يجب اعتباره دلالة على أنهما نواة واحدة. فمخترع السيارة قد كان في زمنه العربات التي تجرها الخيول، وهذه فيها تشابه مع جزئية في نواة اختراع السيارة، في أنّ كل منهما قد احتوى على عجلات، فبدون العجلات لا يمكن تصور كيفية سيرهما على الأرض المستوية أو الممهّدة.
لكن نواة فكرة السيارة بعد ذلك افترقت عن نواة فكرة العربة، من حيث أنّ القوة الدافعة للسيارة هي المحرّك الذي يعمل بالوقود الأحفوري، وتلك يحرّكها طاقة الحيوان. وهكذا فقد فرض مصطلح السيارة [Car] نفسه على المخترع رغم هذا الاشتراك، وعلى الناس الذين عايشوا هذا الاختراع؛ وذلك ليمكن فصل كلتا الفكرتين عن بعضهما البعض في الذهن. فوجود العجلات كرابط بينهما، لم يعد يشفع في اعتبارهما ذا نواة واحدة مع اختلاف قوة الدفع بينهما.
وعلى ذلك، فأيّ إضافات على نواة العلم لم تمس هذه النواة، فإنها تُحسب بالعموم لمصلحة صانع النواة، أي للخليل بن أحمد الفراهيدي فيما لو أسقطنا هذا القول عليه وعلى نظريته العروضية التي جاء بها. ومن باب أولى، فإنّ الإضافات على غلاف نواة النظرية، وليس على نواتها نفسها؛ داخلة في هذا الأمر تلقائياً، فهذه قضية فكرية وليست اصطلاحية. هذا دون التقليل من شأن المطورين على غلاف النواة أو تعمّد تجاهلهم، كالدكتور سليمان أو ستة والأستاذ خشّان، ومن قبلهما الشنتريني والدماميني وغيرهم.

إشارة: قد استقصى الدكتور محمد العَلمي في كتابه الرائع (العروض والقافية – دراسة في التأسيس والاستدراك)، معظم وأهم المحاولات التي حاولت الخروج على نظام الخليل في مبحثي العروض والقافية، أو تلك التي سعت للإضافة إليه أو التعديل عليه فقط. وكتابه هذا مرجع رئيس لنا. كمال أنّ للدكتورة ربيعة الكعبي كتاب شبيه بكتاب العَلمي، لكنه مخصوص بالمحاولات الحديثة لسبر أغوار عروض الشعر العربي، عنوانه: (العروض والإيقاع في النظريات الحديثة).

وإذا كانت بعض المصطلحات العروضية الخليلية المتعارف عليها الآن، لم تثبت وتستقر في مناهج العروضيين اللاحقين إلّا في أواخر القرن الرابع الهجري، عند ابن جني والصاحب والربعي؛ ومن هذه المصطلحات تسمية الأسباب والأوتاد (3). فإنّ عدم إعطاء الخليل أسماء لبعض الوقائع في نظامه واستحدثها من جاء بعده، فإنّ هذا لا يعتبر إضافة بالمعنى الحقيقي.
(3) هذا ما ذكره د. سليمان أبو ستة بداية تحقيقه لكتاب الزجّاج في العروض تحت عنوان: في بدايات تَشكّل المصطلحات العروضية، ص 106.

وعلى فرض صحّة ذلك بسبب غياب كتاب الخليل رحمه الله، فإنّ السبب الخفيف والثقيل وكذلك الوتد المجموع والوتد المفروق، هي مكونات أساسية في نظام الخليل كما رأينا؛ ولذلك فهي تقع في صُلب نواة نظريته، بالإضافة طبعاً لفكرة الجزء والدائرة والعلل والزحاف. فهذه هي نواة نظام الخليل، سواء صنع الخليل لها أسماءً تُعرَف بها أم لم يصنع. فواقعها موجود إنما الشك يدور حول من صنع الأسماء التي نعرفها الآن بها، أهوَ الخليل، أم أنّ من أتى بعده هو من فعل ذلك.
وأنا اتفق مع رأي الدكتور سليمان أبو ستة في أنّ الخليل نفسه هو من فعل ذلك، فلولا ذلك لَما تمكن من إيصاله للناس على النحو الذي نعرفه منذ ما لا يزيد على اثني عشر قرنا (العروض للزجّاج: في بدايات تَشكّل المصطلحات العروضية، ص 107). فهذا الأمر ضروري للعقل عند بناء عِلم جديد، وضروري كذلك عند نقله للآخرين أو عند تسطيره في الكتب. كما أنّ ترك واقع واحد أو أكثر في صلب نظرية الخليل العروضية دون استحداث مصطلحات لها، لا يقدح في تلك الضرورة التي أشرنا إليها. ناهيك عن أنّ هذا الأمر محل شك، بسبب فقدان كتاب الخليل عن العروض.
وعليه، فعند مناقشة صاحب عروض قضاعة لمفاهيم نظرية الخليل المبثوثة في كتب العروض القديمة، فكأنما أناقش الخليل نفسه. وذلك لأن ما أُضيف إلى نواة العلم دون الخروج عليها، يُحسب بالعموم لصالح صانع النواة كما قلنا. فهذا أمر فكري يكفي فيه التدليل عليه عقلياً. فإن كانت هذه الـحُجة العقلية التي طرحتها مقنعة لكل ذي عقل سليم خالٍ من الهوى، فقد تحقق حينئذ المراد من طرح هذا العنوان، وإن كان لا، فليقدّم المخالف حـجته العقلية المضادة.
وأيضاً، فإنه إذا اتّفق العِلمان الموجودان في الساحة العروضية حقاً على بعض الأساسات، أي نظام الخليل ونظام قضاعة؛ فليس معنى هذا أنّ العِلمين قد خرجا من مشكاة واحدة. وإلّا فإنّ كلا صاحبَـيّ العِلمين عيال على شيخ المدينة الذي كان يعلّم الغلام التنعيم، أليس كذلك..؟
فرواية التنعيم كفكرة قائمة وحدها، هي فكرة ساذجة لا تفيد إقامة علم عروض بها وحدها كما قلنا، فرواية التنعيم قد اقتصرت على بيان الصورة القياسية فقط، ولبحر واحد، ولقالب واحد فيه، وهو بحر الطويل، وعلى النوع الأول له بحسب تصنيف الخليل. فسبب الاشتراك بهذه الأساسات بين العلمَين، أنّ الواقع الشعري والصوتي قد صدّقها، أي أنّ لها واقعاً محسوساً بثبات؛ لكن العِلمين بعد ذلك افترقا كما سنرى.
فمعظم الوحدات الصوتية في نظام الخليل العروضي، موجودة في نظام قضاعة، وهي الوتد المجموع، والسبب الخفيف، والفاصلة الصغرى والكبرى؛ لكن هذا لا يعني أنّ الخليل قد انتبه لكونها هي المدارج التي تمضي عليها سلاسل الأصوات حصراً، وعليها تقوم التفسيرات الصوتية المتعلقة بالسلاسل والتسلسلات حصراً..؟
فكما قلنا في مختصر خريطة العقل (البند 6): أنه إذا كان للواقع وجود حقيقي، فلا بد أن يرسل إشارات تدل الباحث المُجِد على وجوده، في أيّ فرع من فروع العلوم؛ ولعله سيفرض نفسه على الباحث دون أن يشعر به. وهذا فعلياً ما حصل مع الخليل، فهذه الوحدات الصوتية قد فرضت نفسها على الخليل لكنه لم يولـِها العناية التي تستحقها، فلم يقتصر عليها في إنشاء نظامه.
نقول هذا بدليل أنّ معظم تأصيلات الخليل وتفسيراته في نظامه، بما ذلك العلة والزحاف؛ قد ارتكزت على المدرج الوسيط، أي على الحرف الصوتي بشقيه، المتحرك والساكن؛ وليس على الوحدات الصوتية، أي على الحرف الصوتي؛ وهذا ما جعل نظامه معقّداً وصعباً. وبدليل أنّ نظامه قد احتوى مدرجين متوهَّـمَين، هما الوتد المفروق والسبب الثقيل، واقفان على متحرك؛ استخدمهما الخليل من اجل إكساب نظامه الترابط والشمولية؛ لكنهما زادا من تعقيد نظامه.
ثم أنّ وحدتَـيّ الفاصلة الصغرى والكبرى [الجدلة والربطة]، ليست وحدات قائمة بنفسها في نظامه، فالجدلة بنظر الخليل هي سبب ثقيل متبوع بسبب خفيف في الكامل والوافر (// + /0)؛ والربطة بتقدير بعضهم مؤلفة من سبب ثقيل ثم وتد مجموع (// + //0) (القسطاس، ص 27). ثم إن الجدلة والربطة ليستا من وحدات البناء الأساسية في نظامه، فالوتد بنوعية (المجموع //0 والمفروق /0/)، والسبب بنوعيه (الخفيف /0 والثقيل //)، هما وحدات البناء الأساسية فيه.
وبدليل أنّ الشرم الذي هو وقوف الوحدة الصوتية على متحرك نهاية سلسلة الصدر، والذي يصيب السبب الخفيف ذا الأصل التكافؤي النظام في الشعر العربي؛ هو في عُرف نظام الخليل ناتج زحاف؛ وفي غير الشعر هو في عُرفه وعُرف اللغوببن العرب، إنما هو وقوف على الحرف المتحرك دون ارتباطه بمفهوم الوحدات الصوتية. لكن الشرم ليس كذلك، فهو ظاهرة صوتية مسبّبها لغوي كما رأينا في مكتشفات عروض قضاعة، وهي تصيب الوحدات الصوتية نهاية كلام البشر. فوجودها في الشعر العربي ليس بمستغرب لأن الشعر من ضمن كلام العرب، اللهم أنّ العرب قصروه في الشعر على السبب الخفيف ذو الأصل التكافؤي لأسباب ليس هذا وقت بيانها.