الـوَلَع باختراع المصطلحات كان طاغياً على النفس في عصر الخليل

المفكر والباحث العروضي/ أبو الطيّب ياسر بن احمد القريـــــــني البلوي القُضاعي

إن عدم استحداث مصطلحات تكون ضرورية في العلم، هو بمثل ضَرَر استحداث مصطلحات لا ضرورة لها فيه، وهو أيضاً بمثل ضرر اختراع مصطلحات غير مُـحْكمة أو متكلفة فيه أيضاً. فأهمية المصطلح تكمن في حَمله لحمولة معرفية تبقى كامنة في الذهن لكنها حاضرة في العقل والنص من خلال المصطلح الذي ذكِره سيُغني عن استحضار كل تلك الحمولة المعرفية التي رُبِطت به.
والذي ظهر لي في رحلتي الطويلة في كتب العَروض القديمة، أن الـوَلَع باختراع المصطلحات كان طاغياً على النفس في عصر الخليل وما بعده. (ظن ناقب [65 - 69 %])

فالخليل هو أوّل من افتَتَح هذا الولع بصنع ثمانية أسماء للـخَرْم دون أي داع [أخرَم - أثرَم – أثلَم - أشتَر – أخرَب – أعضَب – أقصَم – أعقَص – أجَمّ]. فمع رفض عروض قضاعة للخرم، ومع حكم الخليل بكراهته، لكن واقعه واحد لا يشوّش عليه إن جاء مع الجزء السالم أم جاء مع الجزء المزاحِف، طالما انه مخصوص بالجزء المبدوء بوتد، وأنه محصور بأول البيت. ثم فوق ذلك قد اخترع الخليل مصطلحي (الموفور) (والابتداء) المتعلقين بالخرم أيضاً..؟! فالجزء المبدوء بوتد ولم يخرم يسمّى (الموفور). أما إذا اعتل بالخرم فيسمى (الابتداء)..!

وكذلك باقي التوصيفات في نظرية الخليل العَروضية التي جاءت لتصف حالات البيت مع الزحاف أو دونه (الفصل، الغاية، المُعَرّى). فالفصل هو كل عَروضة خالفت الحشو في حكم الزحافات والعلل، فعروضة الطويل مثلاً هي فَصْل، لأن زحاف القبض فيها واجب، في حين أنّ القبض في الحشو على الجواز. أمّا عروضة الرجز التام [مستفعلن]، فلا تسمّى فصلاً، لأن حكم الزحافات والعلل فيها لا يختلف عن حكمها في الحشو.

ومصطلح "الغاية" هو المقابل لمصطلح الفصل من جهة الضرب، فالغاية هو الضرب الذي يختلف حكم الزحافات والعلل فيه عن حكمها في الحشو. ومصطلح "المعرّى" هو الجزء الذي سَلِم من علل الزيادة مع جوازها فيه، ولا يكون ذلك إلّا في الضروب.
فهذه المصطلحات وأمثالها، لم يكن لها أيّ فائدة تذكر في ضبط نظام الخليل وتعليمه، بل أنها أضعفته وشتت الذهن، وأضافت صعوبة إليه فوق صعوبة نظام الخليل المتأصلة فيه أساساً.(1)

(1) راجع مقالتنا في رابطة الواحة التي بعنوان: (صعوبة نظام الخليل وتعقيده، آتيةٌ من ذاته، لا من ذات المشتغلين فيه مُعلّمين أو مُتعلّمين)، فقد بينا فيها الإجماع على صعوبة نظام الخليل، وفسرنا سبب هذه الصعوبة التي لازمت نظامه منذ ظهوره. فالإمام السكاكي (ت/ 626 هـ) وغيره، يُرجِع صعوبة نظام الخليل إلى كثرة مصطلحاته (مفتاح العلوم، ص 523)، لكن هذا سبب ثانوي في هذه الصعوبة وليس أساسياً فيها كما سنرى في تلك المقالة. فكثير من كتب العروض الحالية ومنذ فترة طويلة؛ تدرّس نظام الخليل بأقل عدد مصطلحات له، لكن الصعوبة لم تفارقه مع ذلك.

وقد ركب الأخفش موجة الـوَلَع باختراع المصطلحات الرائجة في زمانه، وهو المغرَم بمخالفة الخليل بأيّ وسيلة تلوح له (ظن ناقِب) (2)، فاخترع مصطلحات لا داعي لاختراعها أساساً، بل كان لاختراعها ضرر على مبحث العروض والقافية [(الغَالِي ومعه الغُلُوّ)، (التَّعَدِّي ومعه المُتَعَدِّي)، الإشباع. (قوافي الأخفش، ص 41)].

(2) وقد وصل الدكتور محمد العلمي لنفس هذا الاستنتاج المبرّر عن غرام الأخفش بمخالفة الخليل (دراسة في التأسيس والاستدراك، ص 196).

واختتم موجة الولَع باختراع المصطلحات القاضي أبو يعلى التنوخي، وذلك باختراعه مصطلحاً جديداً وجد له مكانا لم يسبقه إليه أحد، فرجا أن يسجل باسمه، قال أبو يعلى: {سألت الشيخ أبا العلاء رحمه الله: ما يسمّى القصد من الرجز تجتمع فيها القافية المتكاوسة والمتراكبة والمتداركة..؟ **، فقال: ما علمت أن أحداً قاله. ذكر هذا. وأنا أسمي هذه القصيدة (الـمُثفّاة) يذهب بذلك إلى لى ثُفَيَّه، ومنه المرأة المثفاةُ، وهي التي نكحت ثلاثة أزواج} !! (القوافي للتنوخي، ص 62).

والذي منعَ هذا الرأي الذي قلته، أي في كون وَلَع القدماء باختراع المصطلحات كان طاغياً على النفس؛ من استحقاق درجة الثاقب الظنية [73 - 77 %] فما فوق، على "سلّم قضاعة" لقياس مستوى الظنيّة في الأفكار (راجع مختصر خريطة العقل للمؤلف)؛ أنّ هذا يستلزم بحثاً مستقلاً يستغرق كل علماء ذلك العصر، وفي جميع الفنون. أي أن استناد هذه الرأي على مشاهدات أبي الطيب القضاعي المتواضعة في علم العروض، ومع كونها مشاهدات معتبرة؛ لكنها لا تكفي إلّا لنيل هذه الفكرة لدرجة الناقب فلا تتعداها [65 - 69 %]).