كما أن اللغة العربية قد تهيأت لتكون وعاء للقرآن الكريم ويكون الإعجاز بها كذلك تهيأ الإنسان العربي لكي يكون تهيؤ هذه اللغة على يديه فاللغة لاتنطق بنفسها بل ينطق بها البشر وكذلك تهيأ الإنسان العربي ليكون في قمة الفصاحة والبلاغة البشرية لكي يتحداه القرآن فكان جيل المبعث هو أفصح وأبلغ جيل مر على تاريخ البشرية ومن قرأ الشعر العربي يعرف أن أشعر العرب هم الجاهليون وهنا تكمن أهمية الشعر الجاهلي في هذا الشأن فهو وثيقة تثبت لنا هذا الذي قلته وتصور بيئة التحدي اللغوية في فصاحتها وبلاغتها .
وسيكون كلامي في هذا المقال بإذن الله عن :
كيف هيأ هذا العربي اللغة العربية ليكون إعجاز القرآن بها من ناحية الصوت والجرس والنغم ؟
وهل في كلام العلماء مايدل على هذا ؟
قال العلماء : إن الأصول تنقسم الى قسمين :
أصول لاتُرَاجع رفض العرب أن ينطقوا بها وذلك مثل الفعل قام فأصله قَوَمَ انفتحت الواو وانفتح ماقبلها فقلبت ألفا .
وليس معنى كلامهم أن قام أصلها قوم أن العرب نطقت بهذا الأصل بل لم تنطق به ولكنهم لما درسوا لغة العرب وجدوا فروعا لها أصول تعود اليها فأعادوا هذي الفروع الى أصولها ووحدوا أن هذا قاعدة مطردة يقاس عليها.
لاحظ ثقل نغم قَوَمَ وخفة نغم قامَ .
والقسم الثاني من الأصول أصول راجعها العرب لما احتاجوا إليها أي أنهم انصرفوا عنها أول الأمر فلم ينطقوا بها ثم احتاجوا إليها فراجعوها ونطقوا بها وذلك مثل الفعل رَدَّ أصله رَدَدَ قبل إدغام الدالين فلم يقولوا ردد ثم لما أسندوا الفعل رَدَّ الى تاء المتكلم احتاجوا لهذا الأصل فعادوا اليه ونطقوا به فقالوا رَدَدْتُ .
لاحظ ثقل نغم رَدَدَ وخفة نغم رَدَّ ثم لاحظ كيف تحولت رَدَدَ من الثقل الى الخفة بعد إسنادها الى تاء المتكلم رَدَدْتُ فالعرب لم تراجع هذا الأصل الثقيل الا بعد زال ثقله .
أليست هذه التهيئة للغة تحتاج أذن حساسة تجاه الأصوات والايقاع والنغم الذي في اللغة ؟
ومادام أن مهمة العرب هي تهيئة اللغة العربية فلابد أن الله سبحانه وتعالى قد وهبهم الوسيلة لتحقيق هذه المهمة .
هذا شيء مثل الشمس والقمر وكيف صارت الشمس سراجا وكيف صار القمر منيرا ونعرف به عدد السنين والحساب .
كذلك عندنا خير وشر في قولنا :
زيد خير من عمر وعمرو شر من زيد
فخير وشر هنا اسما تفضيل أي ينبغي أن يكونا أخير وأشر لأن اسم التفضيل يكون على وزن أفعل لكن العرب عدلت عن أخير الى خير وعن أشر شر وأعتقد أنه واضح الثقل في أخير وأشر والخفة في خير وشر .
ومن هذه الأمثلة كثير في اللغة لكن هناك مثالان أود ذكرهما :
الأول : أنهم قالوا يغزو ويرمي ولم ينطقوا الضمة على الواو والياء التي هي حركة الإعراب وصغر إعراب يغزو ويرمي بضمة مقدرة منع من ظهورها الثقل .
ثم إنهم قالو الغزوُ والرميُ في حالة الرفع فنطقوا الضمة . لماذا ؟
يغزُو : الزاء مضموم .
يرمِي: الميم مكسور .
يغزُوُ : لتيمكن أن تتحمل الكلمة ثقل الضمة .
يرمِيُ : يرمِيو ثقيلة جدا .
الغزْوُ : الزاء صارت ساكنة فتحملت الكلمة ثقل الضمة التي على الحرف الذي يليها .
الرمْيُ: الميم صارت ساكنة فتحملت الكلمة ثقل الضمة .
أعتقد هذا دليل واضح ولكن أكثرت من الأمثلة ليعرف القارئ أن هذا شمل اللغة جميعها وهاك المثال الثاني وهو أعجب من الأول :
قال العرب في الدار رجل ولم يقولوا رجل في الدار لأن التركيب اعتراه خلل بكون المبتدأ نكرة فوجب تقديم الخبر .
ثم قال العلماء يجوز أن تقول :
رجل كريم في الدار فتقدم المبتدأ النكرة لأنك وصفته .
لكننا لما تقصينا الكلام وجدنا أن العربي لم ينطق بهذا وهذا حسب معرفتي أو لنقل لايكاد سمع أن العرب قالت مثل هذا :
رجل كريم في الدار
ولكن تقول :
في الدار رجل كريم
ولو فكرت وتأملت فلن تجد لهذا من علة الا تعليلا واحدا :
أذن العربي الحساسة تجاه نغم اللغة رفضت :
رجل كريم في الدار .
كل هذا مقدمة حتى نتكلم إن شاء الله عن جرس وصوت الجمل في الشعر من خلال نظرية النظم ثم نشير الى القرآن الكريم.
يتبع بإذن الله