ليلا ، اقتحموا منازل القرية والناس نيام ، أخرجوا جميع الرجال بالقوة منها ، شخصت أبصارهم تحت الظلام ، وجفت قلوبهم ، ضمادات سوداء تغلق أعينهم. في وقت وجيز حشروا جميع الرجال في شاحنة كبيرة. تحت عمود كهرباء يعصر أنواره بمقدار، كنت أراقب المشهد من كوة صغيرة وأنا مختبئ تحت أخشاب متهرئة. وأنا أشاهد الرجل الضخم ومسدسه يتدلى على جانب خصره الأيمن ، يحشر أبي بعنف بين الخلائق البشرية ، ما عادت روحي ترغب أن تستقر في جوفي ، ترجرجت أنفاسي ، غـزا دم دافئ كل أطرافي .
قبل انطلاق الشاحنة ، استجمعت قوتي ، قفزت بين الأجسام، بخفة دسوني بين أضلعهم. الثواني تقتل الثواني. والساعات تقتل الساعات .
جاء ضوء النهار يمحو أثر الظلام ، وجدوا أنفسهم أمام جبل يلامس السحاب. لا أثر للشاحنة، ساروا كقطيع ماعز ، يتفرقون ، يتجمعون. يفرغون بين شفاههم ريحاً دافئة. يستنشقون نسمات باردة، بأيديهم يشيرون إلى الجبل . توقفوا ، تبادلوا النظرات ولم ينبسوا بكلمة. شخصوا بأبصارهم إلى الأعلى، أسقطوا رؤوسهم بين صدورهم.
نظر إلي أبي نظرة عميقة ،ابتسم ، لا أدري هل كان يسخر مني لفرط الثقة بالنفس ؟أم يبارك مجيئي معه ؟ شخص بعينيه للسماء، سمعته يترحم على أمي التي ماتت قبل أشهر. انسكبت دموع دافئة اعتصرها الألم في خفاء. أحسست أن قلبه لم يعد يستقر في جسمه.
تساءل القوم من يكونوا ؟ ابتسم أحدهم وقال : لا يهم من هم ، ولكن ، من نحن الآن ؟
خطوت ، عدوت ، أتطلع إلى قمة الجبل . على ارتفاع شاهق طائرة تحلق فوق رؤوسنا ، الكل يتتبعها بأعينهم وأنا أمسك بيدي الصغيرة جلباب أبي . تغيب الطائرة ويبقى هديرها يسكن قلوبنا . توقفنا ، حاولت أن أدل على أنفسنا بمنديل أبيض كان يقي عنقي من لفحة البرد، لكن أبي منعني .
ارتجفت قلوب القوم في مرآة النهار. قذفوا دموعهم في الخلاء الموحش، وقفوا يتمتمون ، نظروا إلى قامتي بعمق ، فهمت أنهم تذكروا أولادهم ، نساءهم ، منازلهم ....
اختبأ الجميع بين فجاج ضيقة في الجبل ، فلما جاءت كتائب الظلام ، سرنا ، مزقنا الحدود ، من هضبة إلى سهل ، من غابة إلى أكمة ، وصلنا إلى جرف عال يطل على شاطئ بحر ممتد. كانت مياهه العميقة تراقبنا ، والأمواج المتلاطمة على علو شاهق تحذرنا.. قال عمي جبران:
ـــــ تأكدوا يا قوم أننا قد انفصلنا عن تاريخ الوطن . سقطت منا بطاقة الإقامة .. لم يتمم كلامه حتى اخترقت جسمه رصاصة صامتة ، أردته قتيلا. صاح عمي طاهر في وجوهنا:اختبئوا ، لكن الطائرة أمطرت تباعا قنابل متفرقة علينا .
صغر جسمي يسمح لي بالاختباء بين صخور الجبل ،لا أدري هل تجاوزت عشر سنوات أم لا ؟ همد القصف ، ورغم ذلك لم أستطع أن أخرج من مخبئي الصخري ، لم أسمع خشخشة للأقدام ،ولا همسات منفلتة من ألسنة الرجال. على مضض غلبني النوم ، نمت نومة المكروب والخوف ينتصب بين عيني، والذعر يقف على باب قلبي .
صفعتني أضواء الشمس ، فركت عيني بيدي فأسرعت أبحث عنهم .. لم أجد أحدا .. وقفت على علو المنحدر الذي يطل على شاطئ البحر الغاضب ، رأيت بعض الجثث يلمسها ماء البحر كلما اندفع الموج تباعا. تسللت عبر منحدر ضيق إلى الشاطئ ، وقفت على رؤوس الجثث والموت قد أخذ أنفاسهم ، تهـــتز كلما امتد الماء إليها ، جثث متناثرة كأكياس متهرئة ومنفوشة من كثرة البلل .
بحثت عن جثة أبي فلم أجدها ، صرخت بكل قوتي في وجه اللانهائي ، جفلت النوارس ، لكنها عادت ترمي بنفسها في الماء لتسرق الحيتان دون أن تكترث بوجودي . احتميت بالفراغ الموحش ، استأنست بهدير أمواج البحر التي تظهر وتختفي .. لم تكن لي طفولة ما على هذا المكان ، حاولت أن أنقش طفولتي الجديدة على شيء ما ، على شجرة، على صخرة .. لكن .. ما من شيء ينذر بالأمان .
فكرت أن أدفن الجثث بعيدا عن عيون التماسيح ، احترت في اختيار المكان ، سرت أبحث عن موقع يليق بالشهداء ، لم أجده . قـفـلت راجعا إلى نقطة الانطلاق ، ذهلت ، لقد اختفت كل الجثث نهائيا . مررت نظري وسط البحر فلم أر شيئا ، الماء يقارع الماء ، والأمواج تصارع الأمواج في غضب .
قعدت تحت شجيرة صغيرة تلقي بظلها على رمال يابسة ، مكتئبا أندب حظي المنكود ، وأنفاسي تتلاشى بين حبيباتها الذهبية. ولما أحسست أن اللحظة تترك ندوبها على نفسيتي، تذكرت الله، فراسلت السماء بيدي الصغيرتين ، وطيور البحر تحلق فوق رأسي كأنها تريد أن تتخطفني ، وأخرى جاثمة على الصخور تراقب حركاتي . وأسراب أخرى تتقاطر على الطحالب والنباتات .
لوى الحزن قلبي فقررت أن أنتظر وأنتظر ، والانتظار ينهش عيني ، أنتظر سفينة عابرة قد تأتي ولا تأتي ، لكن.. من عمق قلبي ، تمنيت أن يسرق أبي قارب صيد ويعود لينقذني !