أنا وقابيل!
تعيسةٌ أنا مُذْ فتحت عيني على هذا العالم الذي لا يهدأ!
مللتُ هذه العتمة.. الروائح الموبوءة.. نتكدّس ونتكدّس.. أسمع أصواتهنّ.. أشمّ روائحنّ التي هي كرائحتي التي مللتها للمرة الألف بعد الألف!
فماذا يمكن أن يصنعوا بي وبأترابي؟
إشتقت إلى النور!
في ذلك اليوم ظننت أني سمعت صوت الخلاص.. كانت الأقدام تقترب، والأصوات ترتفع بوتيرةٍ قلقةٍ.. لكن.. تبددتْ أحلامي عندما اقترب منّا أحدهم، فسالت في كياني موجة تشاؤم انبعثت من أنفاسه النّتنة..
مدّ يديه القذرتين نحوي فأوقفه صوتٌ محذراً:
ـ إذا تمّ كشف أمركم فاعلموا أننا ـ بمجرد مغادرتكم ـ لسنا مسؤولين عن شيء، حتى الوزير سينكر معرفته بكم!
صكّتْ كلمة الوزير في أذني.. كان هنا منذ أيام.. لمسني بافتخار، بلامبالاة، بل بنشوةٍ عارمةٍ أخذ يمرّر أصابعه يتحسّسني..
آه.. كم أصبت بالقرف حينها.. بالكراهية.. كانت يداه كنار كادت تفجرني!
قفزتْ إلى ذهني أسئلة مؤرقة: لماذا صُنعنا؟ هل نحن فعلاً بنات أفكار خاطئة؟ الخطيئة نفسها؟
تقطّعت سلسلة أفكاري عندما اهتزّ المكان وما فيه.. بدأوا يدفعوننا في سيارات، ويحشروننا دون مبالاة..
كنت أرى المشهد من ثقب في سجني الصغير!
لكم أكره هذه الحياة.. هذه الأيدي القذرة.. الأنفاس الخاطئة.. العرق المتصبّب على جباهٍ ليس فيها سيماء إنسان!
لكم أكره سجني الخشبي هذا، أو السجن الحديدي الذي سأدخله في آخر المطاف، كما سبقني إلى ذلك أترابي!
هناك.. حيث النهاية.. نهايتي أنا، ونهاية من ألتقي به وأعانقه.. نهايةٌ من دماء ورماد..
هناك.. حيث أستحيل شعلة نارٍ أنتزع منه فتيل الروح!
هدرت السيارة في طريقٍ ملتوية، كنت أتحسّس العالم من ذلك الثقب الضيق المضيء، الذي كان كل شيء بالنسبة لي، صلتي بالعالم.. بحريتي.. أملي.. مستقبلي الذي أعلم يقيناً أنه لن يتغير..
شيئاً فشيئاً كانت رائحة المكان تتغير.. الملح.. نعم رائحة الملح.. علمتُ حينها أننا اقتربنا من البحر..
عجباً ! تساءلت: هل سنركب البحر، إلى أين هذه المرة؟ أنكون شؤماً عابراً للقارات أيضاً؟
فنحن شؤم.. ولادتنا شؤم.. طريقنا شؤم.. موتنا شؤم.. لا نحلُّ بمكان حتى يصيبه الوباء.. المرض.. الكراهية.. الحقد.. فأيّ وباءٍ نحمله إلى وجهتنا تلك؟
أصابني إعياءٌ مضاعفٌ واستسلامٌ جبان!
الرؤيا كانت معدومة إلا من بصيصٍ يبهر البصر ثم يخفتْ.. كان الليل قد أرخى سدوله.. والرجال يتهامسون بحذرٍ شديدٍ ويتحركون بسرعةٍ خفيفةٍ، أثناء نقلنا إلى متن السفينة خشيةً من حرّاس الشاطئ.
كانوا يكدسوننا في أسفل السفينة بين الأشياء، فعادت الروائح الكريهة مرة أخرى.. الرطوبة والعفن وأنفاس الرجال القساة!
بدأت الرحلة، ولكن.. إلى أين؟
تساؤلٌ لم أملك ولم يملك من قبلي من أمثالنا له جواباً، الإجابة الوحيدة كانت دائماً أن لحماً بشرياً يحتضننا، نتضمّخ بالدماء!
بعد مدة لم أدرِ كم كانت، انتبهت على صوت أحدهم وهو يهمس: هناك.. سنسلمهم بعد غروب الشمس..
وبعد الغروب نقلونا إلى سيارات قادتنا نحو المجهول..
حينها بدا لي سؤالٌ مهم.. لماذا كل هذا الهمس والحرص والخوف؟
عشرات السنوات وهو ينقلوننا على مرآى الأبصار والضمائر، ولا أحد يحرك ساكناً، بل أيقنت أن الجميع مشتركون في الجريمة.. فلماذا هذه المرّة كل هذا الحرص والصمت؟
شككت أن الحمولة هذه المرة تخبئ شيئاً مختلفاً، ليس مثلنا.. أغلى ثمناً وأخطر!
توقفت السيارات فجأة.. كانت أنفاس الرجال وهمساتهم تتصاعد، نقلوا شيئاً ما غيرنا بسريّة تامّة.. تحول شكّي إلى يقين.. كان بيننا ما توقّعت!
انطلقت السيارات بسرعة، سمعت ضحكاتٍ منتعشةٍ راضيةٍ..
ثمّ وصلنا كما يبدو إلى وجهتنا.. الآن أسمع صوت الشؤم والدمار.. أنفاس الكراهية والضغينة.. ههنا كل معولٍ لهدم الإنسان والإنسانية..
تباً.. وألف تبٍّ لهذه الحضارة الممقوتة التي تصنعنا وتقذف بنا في الهيجاء، لا نملك لأنفسنا دفعاً ولا منعاً!
آهٍ.. لو كنت مثل هؤلاء، لطويتُ الأرض سراعاً، ولطرتُ دون جناحين إلى جزيرة نائية أقضي حياتي فيها متأمّلاً هذه السماء المتلألئة.. وإنّي إذن لسعيد!
رمونا في أحضان الرجال القساة.. حشرتني يدٌ قذرة مهووسة في علبةٍ صغيرةٍ، ثم لا أدري كيف وصلت إلى شيء أشبه بنفق ذي نهاية مضيئة.. ارتحت وتنفست الصعداء، فلعلّ هذا الرجل قد أشفق لحالي، فرأى أن يتركني أذهب حيث النور..
لكن.. تحركت تلك الفتحة المضيئة يساراً بحركة جنونية.. تمعنّت النظر من خلالها.. كانت تلاحق فتاة سمراء لم تتجاوز الثانية عشر.. تهرول بفزع.. يستوقفها صوت الرجل القذر المهووس.. تقف مذعورة، تلتفت إليه.. عيونها تسبح بالدموع.. صدرها يعلو وينخفض بعنف.. يداها ترتعشان.. شفتان تتوسلان من غير ما حركة..
ثمّ.. أحسستُ أنفاس الرجل أصبحت أكثر هوساً وقذارة، دقات قلبه تخفق بشوق للكراهية والحقد والضغينة..
السماء تغيّرت ملامحها.. الروائح والألوان والأشكال تبدّلت..
انطلقت بسرعة هائلة عبر النفق.. لامست الضوء بعنف شديد.. جامحة نحو هدفي الدقيق.. الفتاة المذعورة!
اختلط بارودي بنجيعها ودماغها.. أحسست بحرارة جسدها ثم برودته.. شممت دمها، كان لا زال شاباً طرياً!
سقطتْ..
وأنا لابدةٌ في رأسها البريء أندبُ حظي المشؤوم..