معاني المدود في القرآن الكريممقدمة:
د. ضياء الدين الجماس
حروف المدّ ثلاثة في اللغة العربية هي : (ا) الألف بعد الفتحة، و(ي) الياء بعد الكسرة، و(و) الواو بعد الضمة، ويقدر زمنها وسطياً بزمن حركتين ومثالها زمن نطق حرف الألف من كلمة (قال) وفق نطقها السليم في الكلام المؤديلفهم معنى الكلمة.
وإذا اقتصرت مدة نطق حرف المدّ على مقدار الحركتين أعطي درجة (القصر) فإذا زاد النطق به عن ذلك سمي المدّ فرعياً . ولهذا المدّ الفرعي درجات أقصاها ست حركات أي بمقدر نطق ثلاثة حروف ألف مدية (ااا) .
موجبات المد الفرعي:للمد الفرعي سببان موجبان رئيسيان :
1- سبب لفظي هدفه الرئيسي نطق الحرف التالي للمدّ بشكل واضح لا يقبل اللبس كأن يلي المد حرف الهمزة أو حرف ساكن. وهناك سبب خاص بورش برواية الأزرق أن يسبق حرفُ الهمزة حرفَ المدِّ.
2- سبب معنوى يريد المتكلم من خلاله التعبير به عن انفعاله النفسي بمعنًى يريد إيصاله للمستمع وهو التعظيم لأمر ما أو العكس التبخبيس بأمر ما أو شدة التأكيد على أمر ما .. ومن أمثلة التعظيم قول ( لآ إله إلا الله) بمدّ ألف لا النافية للتعظيم حتى عند الذين لا يمدون المنفصل. ومن التعظيم المعنوي مدّ ألف لا للتبرئة مثل (لاريب- لا شية فيها- لا مردَّ له – لا جرم..) ونقل هذا النوع من المدّ بدرجة التوسط (4 حركات) عن حمزة بوساطة أبو طاهر بن سوار في (المستنير) وسبط الخياط في (المبهج)، وأبو الحسن ابن فارس في (الجامع)
يجب أن نعلم أن الموجب اللفظي للمدّ أقوى من الموجب المعنوي في علم القراءات.
ولكنني أؤكد هنا أنَّ للمدود معان مذهلة لمن يتدبرها سواء كان سببها لفظياً أو معنوياً.
كما أن لحذف حرف المد لسبب لغوي في القرآن الكريم معان رائعة تجذب كل عقل مبصر وتشهد بأن هذه البلاغة الفائقة لا يمكن أن يحبكها بشر مهما بلغ من البلاغة.
وأقدم مثالين من تدبر معاني المدود لعل القارئ يجد حافزاً في تدبر المعنى المحتمل من كل مدّ ورد عند القراء مهما اختلفوا في درجاته:
1- قال تعالى في سورة الأنعام يصف معاناة سيدنا ابراهيم مع قومه أثناء حوارهم ومحاججتهم (وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أتحآجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ.. 80)
في مدّ ألف (وحآجَّه) إشارة إلى طول زمن الحوار وشدته ، وكان يمكن استعمال كلمة معبرة أخرى لا تحتاج للمدّ مثل (وجادله أو وحاوره)، ولكن القرآن استخدم كلمة فيها حرفاً مشدداً بعد المد فأوجب مده حتى 6 حركات ( لأنه مدّ متصل) وفي تشديد حرف الجيم بعد المدّ تعبير عن شدة الجدل.
وفي رد سيدنا ابراهيم عليهم (أتحآجُّونِّي) نلاحظ في هذه الكلمة وجود ألف ممدودة بسبب حرف مشدد يتلوها والواو ممدودة بسبب حرف مشدد يتلوها، وفي هذا الاستعمال تصوير مذهل لمعاناة سيدنا إبراهيم في حواره مع قومه وطول مدته ولا يخفى حواره معهم بعد أن كسَّر أصنامهم . ما اضطرهم إلى محاولة حرقه بعد أن عجزوا عن محاججته... وقد لخصت كلمة (أتحآجُّونِّي) كل القصة بتصوير رائع.
انطق أخي القارئ هذه الكلمة (أتحآجُّونِّي ) بمدودها وحروفها المشددة وستدرك معنى البلاغة في كلمة واحدة.
2- في البقرة الآية 249 (...قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ..) تروي قول المجاهدين الذين عبروا النهر مع طالوت لمواجهة جنود جالوت ، ولنلاحظ هنا أن اختيار لفظ الجلالة (الله) بعد كلمة (ملاقو) ذات الحرف المدّي في آخرها أدى إلى حذف هذا الحرف لفظاً لالتقاء ساكنين ، وكان يمكنه استعمال كلمة ربهم ( ملاقو ربهم) ليبقى حرف المدّ في هذه الحالة ولكن السياق هنا جارٍ في مجال الشهادة في سبيل الله وفي حذف هذا الفاصل الزمني المدّي دلالة على أنَّ الشهيد إذا استشهد تلقاه الله باسمه الأعظم دون حجب مباشرة ودون أي زمن ممتد.
هذه دعوة لكل قارئ أن يتدبر القرآن الكريم وليعلم أن للمدود وحذفها حِكَمٌ لا تنتهي، وأنَّ هذا القرآن العظيم لا تنتهي عجائبه.نسألك اللهم أن تزيدنا علماً ورحمة من عندك. آمين . والحمد لله رب العالمين.