سيدة المطر
لمعت أشعة شمس الصيف اللاهبة و هي تنعكس على ظهره الأسود النحيل عابراً بوابة السور الشائك يرفع بين يديه جسدا ضامرا لا اثر للحياة فيه إلا في مقلتين تحدقان إلى الخلف بحزن ، تبحث عن أكثر وجه الفته في أعوامها الأربع الماضية ، ولا تجد سوى مئات الحراس المدججين بالسلاح يحيطون بالسور من بعيد فيما انتصبت بالقرب من السور خيام بيضاء يرقد فيها الالاف ممن يتشبثون بأمل النجاة من هذا الطاعون الشرس الذي فتك بالشرق الأفريقي في غضون أسابيع قليلة . من فاته طوق النجاة يدفع إلى براثن السور الشائك ليبتلعه الموت بهدوءه الصاخب .
لم تلبث البوابة طويلا حتى التحمت دفتيها بسلاسل حديدية حرص الحارس العجوز على إحكام أطرافها بعدد من الأقفال هو ينظر إلى ضابط الشرطة المنهمك في تلميع حذائه . و قف ساكي مشدوها بعينين محمرتين و أطراف مرتعشة تهزها الحمى يتأمل برزخه الدنيوي أو " الكارانتينا" كما يطلق عليه السكان و تعني أرض الموت , فلاة صفراء فسيحة ترامى فيها البشر زمرا و أفرادا , أشباه أحياء و أمواتا , لا ضجيج و لا همس ، أبصار هائمة تتخطى حدود الأسوار الشائكة و تسترق النظر إلى الحياة من خلفها. و حده الموت يجول هنا و هناك ، يهدم ما تبقى من جسور الأمل ليبني عروشه على أنقاض ما تبقى من حيوات داخل السور .
أكمل ساكي طريقه نحو شجرة عارية إلا من بعض الأغصان خلقت ظلة لا بأس بها تقيه من و أبنته من لفح الشمس الحارقة و قد إرتمت تحتها إمرأة عجوز متوسدة بطن ذراعها الأيمن تتصاعد أنفاسها بتسارع مستغرقة في النوم . و ضع ساكي إبنته " يلدا" ذات الأربع سنوات وبجسمها المرتعش على الأرض بعد أن لف جسدها بوشاح ثقيل و قد إستغرقت في النوم و جلس بجانبها و اضعا يديه بين رجليه يلتمس الدفء و هو ينظر إلى الجنود بحنق ، لقد أقنعوه بالذهاب إلى المشفى لتلقي العلاج بعد ما أقر طبيب الحملة التي داهمت قريته بأنه و أبنته قد أصيبا بالعدوى ، كان كل شيء على ما يرام قبل أن تبدأ بالأمس يلدا ببكائها اللذي لم ينقطع و الحمى التي إنتشرت في جسدها الصغير و عيناها التان صارتا بلون الدم ،ثم توقفت عن البكاء و أطبق عليها الخمول و التعب , إنتقلت إليه العدوى خلال ساعات ، و ضعوهما في شاحنة مليئة بأشباههما ، كانت زوجته هيتا تصرخ باكية من بعيد ،تحاول عبثاً اللحاق بالشاحنة حتى سقطت ‘ نظر إليها بشوق حتى تلاشت من أمام ناظريه .
إستند إلى جذع الشجرة ،يرقب ما حوله في خوف و حزن لم تكن حياته أقل شقاء من غيره من الأفارقة، يأسره الفقر منذ ولادته ويصحبانه الجوع و العوز أينما حل ، فقد أبواه في الحرب الأهلية و ظل وحيدا شريدا حتى التقى بهيتا لتنسيه الامه و أحزانه ثم وهبته يلدا لتطعمه بعضا من مذاق السعادة و الان ينقض عليه هذا الوباء ليجهز على حياته القصيرة بوحشية .
عند الغروب دخل بعض الحراس يرتدون أغطية بيضاء و كمامات يحملون صهاريج معدنية ذات خراطيم طويلة، وقفوا على أحد الأجساد الممدة ،وكزه أحد الحراس بقدمه فلم يستجب أعطى الإشارة لرفيقه ليصوب الخرطوم عليه ، إندلعت خيوط من اللهب لتنهش اللحم الميت و تحيله إلى سواد أسحم ، إزداد جسد ساكي إرتعاشا من هول ما يرى ، إحتضن يلدا بعمق فيما إنهمرت دموع عينيه أخذته سِنةٌ من الذهول أيقظته منها يد نحيلة بارزة العروق تربت على كتفه الأيسر " لا بأس يابني ..هذا أفضل للأموات و الأحياء معا" ، نظر ساكي إلى المرأة العجوز و هو يزدرد ريقه بصعوبة ، سوداء نحيلة قصيرة شعر أبيض شعث ، لقد رءاها من قبل ...قطعت العجوز صمته " في كثير من الأحيان يكمن خير عظيم في أكثر الشرور فظاعة" قالت عبارتها قبل أن تعود لتفترش الأرض و تتوسد ذراعها مرة أخرى.
أعاد إحكام الوشاح على يلدا وقد كمشت أطرافها الصغيرة على بعضها لتخلق بعض الدفء ، و ضعها في حضنه مستندا على جذع الشجرة ،أغمض عينيه بأسى ، كم يأمل بالفناء ليستريح ، لا عذاب أشد من إنتظار الموت ،جال في الحياة فلم يحظى بثمرتها ، فما باله يخشى الموت ، هاهو يراه قادما من بعيد ، تظله الشمس الحارقة و تسوقه أرض قاحلة جرداء ، قادم إليهم من بعيد ، فيما يتظره هو في جمع قليل من أهل القرية يحيطون بإمرأة عجوز قصيرة صبغت وجهه بالبياض و أطرافها بالطين الأحمر فبدت متوهجة ، ترتدي فو كتفيها رداء من جلد الماعز ، تبرز بين فروقات شعرها المجدول خيوط خضراء تتدلى منها عناقيد صغيرة من زهور جافة ، ترقص بوجد ونشوة عاليتين فيما أغمض الجمع عيونهم يرددون بخشوع ما تتلوه من صلوات بصوت شجي أثناء رقصها ترفع به عقيرتها تستنجد بالسماء ، ترقص على إيقاع الحانها في دائرة صغيرة متموجه تهز رأسها يمنة ويسرة فما تفتأ حتى تجاوبها السماء و قد تعانقت سحبها الكثيفة برعودها وبروقها بنفس وتيرة الإيقاع فتذرف زخات خفيفة لا تلبث أن تشتد فتتهلل الأرواح العطشى و تشرق من جديد ، تزهو الأرض وتربو من جديد و هي تغتبق بركات السماء ، ينكص الموت على عقبيه ، فتلاحقه السماء بشهب باردة رقراقة تذيبه حتى التلاشي , يتجمد ساكي هناك من وقع الدهشة و عيناه لا تفارقان الكاهنة القصيرة .........
يستيقظ من هذيان الحمى على بكاء يلدا الصغيرة و هي بين يدي المرأ العجوز التي لم تفارق الابتسامة وجهها و قد اخذت تربت عليها بحنان هي تنظر إلى إحمرار عينيها و إرتعاشات جسدها الصغير ، " لا عليك يا صغيرتي لاشيء يريعنا أكثر مما نحن فيه " ... تسعل يلدا بشدة تكاد تقتلع أضلعها الصغيرة ، تتقيأ دماً فيهرع ساكي إليها فيحملها و يربت على ظهرها بحنان وجوفها يقذف قطع الدم أسفل كتفه ،إنهار على ركبتيه يغالبه النشيج و المرأة العجوز تنظر نحوهما بحزن جلي تقاطرت معه دموعها التي لم تنضبها السنين ، أضناها الدهر بطول العمر فجاءت تنشد الخلاص في برزخ الفناء هذا، عرفها ساكي إنها كاهنة القرية التي نشأ فيها ، هي من زارته في حلمه ، يستغيثون بها لتناجي السماء فتجود بالغيث كلما أجدبت الأرض و هلك الزرع ، تعرفها حتى بهائم القرية قترقص لمجيئها بهجة و سرورا ، يتابع الأطفال النظر بينها و بين السماء ليكتشفوا سر قدرتها و حظوتها لديها وكانت تنظر إليهم بإبتسامة معهودة ترسمها بمقلتيها قبل شفتيها فتعدهم بالنصر و لم تخذلهم يوما ، ترافقها السحب حبلى بالحياة فتمطرها على الناس لتنبتهم من جديد ، حفظوا صلواتها و طقوسها فلم يفلحوا يوما في ترويض السماء، ينظر إليها ساكي بإمعان ، ربما لم تعد تسعفها صلواتها الان و هي في سنينها الطاعنة لتنجيها من الهلاك فحشرت معهم ليواجهوا قدرا محتوما لم يعد يكترث بالمعجزات .
أشرقت الشمس على السكون ، تمددت الكاهنة بجسد هامد فارقته الحياة وقدم مال رأسها إلى اليمين و في عينيها ذات الإبتسامة التي لم تفارقها يوما و بالقرب منها كان ساكي وقد لبس عقدا من أوراق الشجر و عفر وجهه بالتراب و هو يرقص حول يلدا و هي تضحك بسرور بالغ ، يتلو صلواته بيقين و يدور في حلقات متعرجه ، تتكاثف الغيوم من فوقه و أرعدت السماء لتمطر الحياة من جديد.