نصّ ذكيّ حاذق بدأت رموزه تجذب القارئ منذ النّظرة الأولى إلى العنوان " أغلبيّةُ مفرد " فمن يقرأ العنوان يجول في خياله باحثًا عن تحليل لمدلول هذا المفرد الذي له أغلبيّة، هنا سيختلف القرّاء في تحليلهم للعنوان ولمدلول الفرد وكلّ قارئ منهم سيرى النصّ من الزاوية التي انطلق منها في تحليل العنوان.
قد يكون هذا الفرد رئيسا أو صاحب نفوذ، أو قد يُعنى به الذّكر في مجتمعٍ يُعطي الذّكرَ نفوذًا، وقد .......
ولنبدأ مع القصّة:
"كانت لعبتي المفضلة، مثلثٌ خشبيٌّ فوقَ الطاولة، كراتٌ من الخشبِ مرقومةً تُرصُّ، مضاربُ بنهاياتٍ مدببةٍ، تتربصُّ بالكراتِ رفعَ الطوقِ؛ لتنقضّ فتقنصَ بعضًا وتتركَ بعضًا يموجُ في بعض!
وصفٌ تمّ اختيار مفرداته بعناية وذكاءٍ شديدَيْنِ للفتِ نظرِ القارئِ ولجعله يتسائل ويحاولُ فكّ تلك الرّموز التي استعملها الكاتب في وصف لعبته.
فاللعبة لها اسم معروف وهي لعبة البلياردو الشّهيرة لكنّ الكاتب لا يريد اللعبة لذاتها بل يُريدها مجموعة من الرّموز تصف ألعابا عدّة قد يتبادر لها الذّهن وفقَ ما يلجُ خيالَ القارئ من صورٍ ذهنيّة نتيجة سماعه لهذه الرّموز فاللّعبة عبارة عن مثلّث خشبيّ، والمثلّث كما هو معلوم من أكثر الأشكال الهندسيّة حدّة ودقّة، وأقلّها قدرة على احتواء غيره لما يشتمل عليه من زوايا، والكرات المرقومة من الخشب وهنا قد نربط الكرات المرقومة بكلّ الأشخاص الذين يتبعون لهيئة لا تعرّف أعضاءها إلّا برقم فيصبح الإنسان في نظرهم رقمًا لا غير، والمضارب التي تتربّص بالكرات ما إن يُرفع عنها الطّوق، والكرات التي تنقضّ لتقنصَ بعضها بعضا ولتترك البعض يموج في بعض، جميعها رموز تشابكت لتصف مجتمعًا تحرّضه المَضارب(أسنان السّلطة) ليضرب بعضه بعضًا.
قد نرسم في أذهاننا أنّ لعبة الباولنج ما هي هنا إلّا كناية عن مجتمعاتنا العربيّة بكلّ ما تحويه من تخبّط وقمع وجور للسّلطة فالمضرب في يد الحاكم والمثّلث هو قوانينه الصّارمة والمضرب هم جيش وسلطات الحاكم التي يسلّطها لتظلم النّاس لا لتعدل بينهم.
"لكنْ وديعةً كنتُ رفيقةً، يوشكُ مضربي ألا يمسَّ الكرةَ؛ فتمضيَ وئيدةً، ليطولَ على القُساةِ الأمدُ، وينفرون، وأؤثرُ اللعبَ وحيدة!"
ويدخل هنا العنصر الانثويّ في اللّعبة، عندما تمسك الانثى زمام الامور لجماعةٍ ما خاصّةً في مجتمع ذكوريّ لن يرضى مَن حَولها بحكمها وطريقة تسييرها للأمور، فهيَ ليّنة وديعة تمسك مضربها برفق فيتمرّد رجالها ويتمرّد الرعيّة، فمن جهة من ينفّذ أوامرها يجد أنّه مهان لكونه ينصاع لحكم امرأة ومن يقع عليه الأحكام يتمرّد على من ينفّذها لكونه يأتمر بحكم أنثى.
"مشكلةٌ أنَّ القسوةَ لم تُصِبْ قلوبَ اللاعبين – رجالاً بخاصةٍ – فحسب، بل امتدت عواملُ التقسيةِ للكراتِ ذواتِها؛ لتغدوَ أصلبَ و.. وأكبرَ حجمًا!.. وتنشأَ عقدةُ الحشرِ!"
هنا نرى وصف للحكّام الرّجال ولرعيّتهم من الرّجال من وجهة نظر الأنثى فهي لا ترى فقط أنّ الحاكم هو الذي يمتاز بالقسوة بل إنّه قد أورث قسوته لكلّ من يحكمهم فمن شدّة فسوته عليهم قست قلوبهم هم أيضًا على نسائهم وأطفالهم، ولكثرة ما يتعرّضون له من حَشرٍ وعصرٍ وتعذيب وتضييق وقمع وبطش نراهم يحاولون الاستبداد هم بدورهم بما ملكت أيمانهم.
"يا إلهي!.. كم هو عسيرٌ حشرُ آخرِ الكراتِ داخلَ النطاقِ – وقد زحفتْ على حصتِها الأخرياتُ – وكم أبذلُ من جهدٍ.. وأبكي مشدودةَ الأعصابِ أوقاتا!"
آخر الكرات هو من يقف في " بوز المدفع " كما اصطلح تسميته، ذلك الذي يتعرّض للضرب وللصّفع وللإهانة لأنّه أوّل من يقع تحت الانظار، وقد تمثّل هذه الكرة القادة والطّلائعيون من الشّباب الذين يتكلّمون باسم الشّعب ويطالبون بحقوقه.
فهم يتحمّلون الكثير من شعبهم ومن النّظام وفي النّهاية تكون سعادتهم بمقدار ما قدّموه من تضحية لأجل الآخرين.
"يتابعُ أبي المشهدَ من طرفٍ خفيٍّ، مكتّمًا ضحكاتِه؛ لئلا أشعرَ بوجودِه، فتنتابَني حالةٌ من الارتباكِ والرعبِ الشديدين!.. لطالما أثارت دهشتَه واستهجانَه:
- ماذا بها؟
- خائفة
- مني أنا!
- من كلِّ الرجال
- ولكني أبوها!
- غدا تكبرُ وتعي هذا
- ولكن...
- "ولكن.. ولكني.. ولكنها.."! ألا تكفَّ عن هذا!.. دعها وشأنَها.. ما زالت طفلة.. لماذا تشغلُ نفسَكَ بالتفاهات؟!
- ماذا؟.. تفاهات!
يحتدمُ الصراعُ بينَهما.. يفقدُ أبي صوابَه.. تصرخُ أمي في وجهِه.. ينهالُ عليها ضربًا وشتمًا.. أتشبّثُ بالفراشِ.. أدفنُ رأسي تحتَ الوسادةِ.. أنتحبُ.. ثم ألوذُ من رمضاءِ عراكِهم بنارِ الكوابيس!"
هنا نرى التّشابك بين القصّة الأصليّة وبين الرّمزيّة التي خلف سطورها، فهذه الأسرة مثال حيّ على ما ورثه الرّجال في مجتمعنا الذكوريّ من قسوة حكّامهم نتيجة القمع الدّائم لحريّاتهم، والكبح لشخوصهم، فإنّهم يُديرون شؤون الأسرة بذات المقاييس والمعايير والنّهج الذي يُمارس ضدّهم، يقمعون زوجاتهم وأطفالهم ويستهزؤون بالفتيات ويسخرون من ضعفهنّ.
"هؤلاءِ المتوحشون – الرجالَ – يحاولون عبثًا إثباتَ صلتِهم بالرقةِ واللينِ! ودائما يثبتُ العكسُ؛ لا صلةَ لهم بغيرِ الوحشيةِ، القسوةِ، الدمويةِ، والجنونِ!.."
هي هنا تتّهم كلّ الرّجال بما في ذلك والدها بالوحشيّة والقسوة في حكمهم وتعاملهم، وهي لم تستثنِ منهم أحدًا.
"عندما كنتُ عصرَ يومٍ أحاولُ حشرَ كُرتي الأخيرةَ كالعادةِ؛ تقدّمَ مني أبي – أحدُهم! – ورفع يديَ الممسكةَ بالكرةِ، ووضعَ محلَّها كرةً أخرى، جديدةً.. صغيرةً.. وجميلةً، استقّرت في قلبي قبلَ أن تستقرَّ في موضعِها! غيرَ أنَّ حالةَ الرعبِ المعتادةِ حالت دونَ أن أكملَ اللعبَ؛ فرفعَ أبي الطوقَ الخشبيَّ، وأمسكَ مضربًا.. ليسددَ به ضربةً – كما توقعتُ! – رجوليةً/ قاسيةً/ متوحشةً/ دمويةً/ مجنونة! ولم تحتملْ كرتي المسكينةُ ضربةً كهذه من أمامٍ، ومن خلفٍ ردةُ فعلٍ أعنفَ لكُراتٍ عتيقةٍ قاسيةٍ!.. و.. يا إلهي!.. انفلقتْ!"
تبديل الكرة التي في المقدّمة بكرة أخرى أصغر حجما وأكثر لينا تعني ظهور قيادات نسويّة، ولكنّ الصدّ الطّاحن الذي تلقّته تلك القيادة أدّى إلى كسرها وتحطيمها نهائيّا.
"طالعني لحظةَ انفرجَ بتثاقلٍ جفناي وجهُ أمي الحنونِ باسمةً:
- حمدًا للهِ على سلامتِكِ يا ابنتي..
مسحَت بكفِّها شَعري:
- ماذا أصابَكِ؟.. انهيارٌ عصبيٌّ.. وغيبوبةٌ ليومين.. من أجلِ كرةٍ انفلقت!
أغمضتُ عينيَّ وأنا أستذكرُ الموقفَ، وأمي تستطردُ:
- سامحَ اللهُ أباكِ!.. الكرةُ الجديدةُ أضعفُ من أن تتصدرَ المجموعةَ.. لولا وضَعَها في الخلفِ.. أو حتى وسطَ الكُراتِ فتحميَها..لا عليكِ.. سأشتري لك كرةً أجملَ منها...
- لا!..
صحتُ أقاطعُها.. وعيناي تجحظان.. فانتابها الذعرُ، وهبّتْ من مجلسِها هاتفةً:
- كما تشائين.. كما تشائين..
جاهدتُ لأرسمَ على شفتيَّ ابتسامةً مطمئنةً.. قبلَ أن أعتدلَ جالسةً؛ لأقرّرَ بصوتٍ قويٍّ:
- أريدُ مجموعةً كاملة.. من الكراتِ الجديدة!"
وهنا نرى الرّموز تتكامل فردّة فعل الفتاة كانت قويّة بحجم الصّدمة التي تعرّضت لها حين همّ الذّكور بقمع وكبح جماح الكرة الرّقيقة الليّنة، وهنا نرى اقتراح الأمّ والذي يعكس الموقف السلبيّ للمرأة في بلاد القمع والذّكور، كانت تفضّل لو أنّ تلك الكرة بقيت كغيرها في الخلفيّة مهمّشة مهضومة الحقوق.
ونرى الفتاة تعلن ثورة على مجتمعها الذّكوريّ بأكمله بحكّامه ونظامه وشعبه الخانع القامع في ذات الوقت.
إنّها تطمع في مجموعة كاملة جديدة، تطمع بمجتمع جديد، تكون به شخصيّة مستقلّة، ويكون من حولها يحملون أفكارا جديدة أيضا، ويتعاملون بأسلوب يختلف عن أسلوب من حولها.
هي تطمح لأن تحظى بمجتمع يقدّرها كامرأة ويحترمها، وتحصل به على الأدوار المختلفة دون أن تخضع لقمع الرّجل المقموع في هرمٍ من القمع والكبح والتّنكيل.
راق لي الإبحار بين ثنايا قصّتك ورموزك مبدعنا.
مودّتي