{ مسافرٌ إلى قلب الأمل}
يومٌ هادئ هذا اليوم..الناس تغدو وتروح،وتبيع وتشتري،لا شيء مريب..يقف رجلان يتناجيان على مقربةٍ منه:
(......: ما باله هذا الغريب ،أقام بين ظهرانينا تسعة أشهر..وحيد..صامت،ولم يأبه به أحد ،ولم يأبه بأحد ؟!
........: لا تقل كذلك ،لقد رأيت إمام المسجد يرمقه من طرفٍ خفي ويملأ شدقيه ابتساماً ،كأنه قريبٌ أو صديق، وقد سألت شيخنا :هل له سابق معرفةٍ بهذا الشاب ؟؟فانصرف دون أن ينبس ببنت شفة ،وذات الابتسامة على محياه..!)أحس بنجواهما،فأطال إليهما النظر ،حتى انصرفا محرَجين..
الشجرة العجوز تحتضنه منذ تسعة أشهر ،لا زال يذكر تلك الأيام الهالكة بتفاصيلها ..صورٌ كثيرة ،ولوحاتٌ شتى،احتشدت أمام عينيه ،واتصلت مع بعضها لتكوّن شريط حياة عمره سنة ونصف ،تسعة أشهر منها أقامها في هذه القرية،وما زاد كان من نصيب الترحال والسفر. ليله داخل كوخه المتواضع ..ونهاره تحت الشجرة العجوز ..وفكره يذرع مسافة الزمن ذهاباً وإياباً .أكل من الحيرة حتى أكلته!!
الابتسامة والغضب والكراهية والارتياح ..كلها تعابير على خصام مع ملامح وجهه منذ تسعة أشهر !!
عندما جاء إلى هذه القرية لم يفكر بالإقامة في ضيافة أحدٍ من أهلها ،لكنه ابتنى لنفسه كوخاً صغيراً..يبعد أقداماً عن طرف القرية الذي تؤمه الشجرة العجوز..المكان الوحيد الذي يعرفه في هذه القرية ويرتاده..هو مسجدها، والشخص الوحيد الذي يرتاح لمرآه هو إمامه، لكنه لم يفكر يوماً في التعرف إليه،أو الحديث معه.. كان كلما حدثته نفسه أن يدخل سوق هذه القرية ،ويمتزج بأهلها ..زجرها بأنه: لن يمكث هاهنا طويلاً ،بل أيامٌ ويمسك عصا الترحال مرةً أخرى ،فهو لم يجد بغيته التي يرتحل من أجلها ...!
إنه يقف تحت هذه الشجرة العجوز كل صباح ،ليلقي على الشمس المشرقة للتوّ تحية الصباح،ويودعها في المساء بتحية المساء!!
لكم تمنى أن تمحى الحدود عن الأرض ،كما تمحى عن الخرائط ..بهذا تنتهي المعضلة التي تعض بنواجذها على حياته ،إذ أن هذه القرية هي آخر ما يستطيع الوصول إليه بلا أوراق ثبوتية...! وما وراءها إلا الحدود ..
هاهي الشمس تمد ذراعها الواهن بلون الغروب،تودعه..لكنه لم يأبه بها –على غير المعتاد- ..لا شك أنه يبيت أمراً ما في نفسه!!.هو كذلك!!
أخيراً بدأت ملامح وجهه تستجيب لما يجول بخاطره..تدريجياً غابت ملامح الحيرة والذهول ،وبدأت ملامح الإصرار بالظهور!! حرك شفتيه بعد انطباق طويل هذا النهار،وقال -هامساً -: غداً إن شاء الله يكون..وتوارى داخل كوخه!!
أدى صلاة الفجر ولم يقصد شجرته –كالمعتاد – بل توجه تلقاء كوخه ، واحتمل معه زاد يومٍ وماءه،وتأبط عصاه ،وخرج....!
وقف طويلاً يدور في مكانه ويتأمل الاتجاهات من حوله ..ثم توقف جاعلاً القرية خلفه شمالاً ،ويمم وجهه شطر الجنوب .فوفقاً لحساباته ..لن يقف أمامه إلا الحدود ..استعان بالله ومضى راجلاً –فقد نفقت راحلته في سفره الأخير-.
الوقت صيف ..ولا ظلال للسحب على صفحة الصحراء ،ولا معالم في هذه الأخيرة إلا الكثبان السمراء ..يعلوها تارةً .. ويهبط منها أخرى ..حرارة الشمس لا ترحم..توقف هنيهة ..رفع طرفه ينظر في السماء ،وقد وارى وجهه خلف كفيه..لا شك أنها غاضبة لعدم اكتراثه بها يوم أمس!!!!
أخذ يمسح المنطقة حوله بعينيه ... وهو يحدث نفسه: لا مفر ..رمال في رمال ..ولا ساحل لهذا البحر أراه..
أمامه كثيب عالٍ ..جرى سريعاً واعتلاه- وما استطاع إلا بشق الأنفس - ،وحين لم يصافح وجنتيه إلا السموم ..ألقى بنفسه على قمة الكثيب يلتقط أنفاسه..اعتدل في جلسته ..وأخذ يعيد حساباته ليحدد الجهات مرة أخرى ،ثم قال: الحمد لله أنا أسير في الاتجاه الصحيح .أخرج زاده من جعبته ،وسمى بالله..
(الحمد لله لا زال فيّ بقية من نشاط ) ..وما كاد ينظر شرقاً حتى صرخ فزعاً مما رأى...!
(يا إلهي ..إعصار رملي يتجه نحوي ،أين أهرب وليس حولي شجرٌ أو حجرٌ أحتمي به؟؟؟
إن نزلت دفنتني الرمال،وإن بقيت في مكاني ،فلن تستقر لي قدم!!)
حاول الهروب غرباً بعيداً عن الإعصار ،على الأعالي مجتنباً منحدرات الكثبان ..لكن المسير في الرمال جدّ صعب ..رويداً ..رويداً اقترب منه الإعصار الهائج ..زلت قدمه،ويا لهولها من زلة!!!!
أخذت الرياح تعبث به ذات اليمين ،وذات الشمال ..كأنه حفنة رمل ..الشيء الوحيد الذي استطاع التشبث به هو:عصاه!! أما الزاد والماء،فهما وإياه في الهواء سواء ...!
آخر منظر رآه ،هو منظر خطٍ أسود عريض في الأفق ،وبعدها لم يعي ما حدث..
وبعد انتهاء العاصفة...
فتح عينيه بوهن ..حاول أن يتحرك ..آه.. عظامه تؤلمه بعد العاصفة ،اتكأ على عصاه ونهض ببطءٍ شديد ..ووهنٍ واضح،وعندما استطاع الوقوف أذهلته المفاجأة ,,ماذا يرى أمامه ؟؟ أحلمٌ أم حقيقة؟؟ ..إنها الحدود.....!
كانت الشمس تميل نحو الغروب ،وهو لا يزال مدهوشاً أمام الحدود ،فما بينه وبينها إلا أقدام..
شعورٌ غريبٌ يكتنفه ..مملوء بالغيظ ..بالحنق ..انقباضٌ في قلبه لم يعهده من قبل ..يخيل إليه أن الحدود بسياجها تلتف حول عنقه لتخنقه..أحس بكراهية شديدةٍ نحوها ..تمنى حينها أن يضرم نيران قلبه في هذه الحدود!!
لهذه الحدود في نفسه وجهٌ قبيح لا يحتمل النظر إليه !! إنها تقف – في نظره –بخبث على هذه الأرض ،لتمنعه وتمنع البشر ..من الحلم..من الطموح.. من الانطلاق نحو الهدف...!
استدار ناحية الشمس الهاربة من ظلمة الليل ،لم يبق من قرصها إلا النصف ..(ترى ماذا أرى ؟؟غبارٌ يشقّ الأفق الشمالي ؟! )..بفراسته عرف أنه ليس بغبار إعصار ..إنه غبارٌ ثائرٌ خلف دابة ..توجس خيفة عندما تراءى له خيال إنسانٍ يعلو حصاناً ..باتجاهه ..
(من ذا الذي يعرفني في هذه البلاد ليطلبني في هذا الوقت بالذات ؟؟)
في تلك اللحظات فكر في كل شيء ،إلا شيء واحد هو :الهرب ،لم يفكر به إطلاقاً !!
اقترب منه الراكب فتبين ملامحه،وشعر بارتياحٍ شديد لما عرفه،إنه: إمام مسجد القرية..رغم أنه لا يعرفه ،ولم يحدثه قط!!!
ترجل الرجل عن راحلته،وأقبل نحوه بابتسامته العذبة قائلاً: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..لم يشعر بالنفور منه كما هو مع بقية الناس ،إنما انساب رد التحية من شفتيه بهدوء :وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ..
علم الشيخ أن أدغالاً من علامات الاستفهام نمت في رأسه..فابتدره قائلاً: رأيتك في الصباح تتجه ناحية الجنوب ،وحين داهمتنا العاصفة الرملية في وضح النهار ،علمت أنها ستلحق بك ،لذا خفت أن تصاب بمكروه – لا قدر الله- ،فأسرعت في أثرك،...يجب أن نعود قبل أن يحل علينا الظلام ،وإلا فالمكان غير مأمون ....
التفت بحزن نحو الحدود ،وقال: دعني وشأني ..لا أريد أن أعود ..فلدي هدف أنطلق نحوه خلف هذه الحدود ..
أسرع الإمام وأمسك بكفيه تودداً ،وقال: أرجوك أقم في ضيافتي الليلة ،واسمع حديثي ،فإن لم يعجبك حديثي ،وإن لم ترق لك ضيافتي ،فلك أن ترحل من ليلتك ..وأمام إلحاح الشيخ لم يستطع الرفض .ترادفا على راحلة الشيخ وعادا إلى القرية تحت جنح الظلام ....
لقد حرص الشيخ في ضيافته أن يرضي ضيفه ،لئلا يضطر إلى الرحيل بناءاً على ما اتفقا عليه..
كان الشيخ يتعامل مع ضيفه ،كالخادم مع مولاه،حتى انفرجت أسارير صاحبنا ،وبدا الارتياح واضحاً في ملامحه..
تنحنح الشيخ ،وأراد أن يبدأ بحديثه الذي وعد به ضيفه ،وقال: يا بني.. أنت تعلم ظروف الحرب التي تسيطر على بلادنا ، ومشاعر الخوف والهلع التي تجتاح نفوس الأهالي..وَ.... (هنا أشار صاحبنا لمضيفه أن ينتظر)..ونهض سائراً بخطواتٍ بطيئةٍ ،حيث النافذة المفتوحة ،وقال: قبل أن تكمل يا شيخ ..أريد أن أحكيك قصتي لتعرفني ..والتفت إلى الشيخ قائلاً: فلا يعقل أن تتحدث حديثاً خاصاً كهذا مع شخصٍ لا تعرفه ،فلربما ارتبت ..ابتسم الشيخ وهز رأسه بالإيجاب ..
عاد الشاب ينظر من خلال النافذة ،وبدأ يقص قصته على الشيخ:
أنا من أهالي القرى الشمالية ..كانت قريتي هانئة وادعة كقريتكم هذه ..لكن الحرب كانت على وعد مع الدمار في قريتي ..انتزع الموت أرواح الأهالي بآلة العدو ،وبقيت روحي وحيدة بين الأموات ..كان آخر أهل القرية موتاً هو أبي –رحمه الله- ،دُمّرت قريتي تدميراً كاملاً ،فصار لزاماً عليّ أن أبحث عن مكان آخر أعيش فيه ،غير أن والدي –رحمه الله- أوصاني قائلاً: ((سافر إلى قلب الأمل ..واقض بقية حياتك في كنفه ..)) ،لقد أصبحت وصية والدي هدفاً لي في حياتي!! إذ تكبدت العناء ،وركبت المخاطر حتى تمكنت من الهرب إلى الجنوب ..وأريد عبور الحدود إلى بلدٍ آمن هو (قلب الأمل ) كما أوصاني والدي ..
هنا صمت الشاب ،ووجدها الشيخ فرصة ،فقام وبهدوء ربت على كتفي الشاب ..التفت الشاب مستفهماً بنظراته!!فابتسم الشيخ ،وقال:بني ..هل تجد لذةً حينما تفكر في وصية أبيك –رحمه الله-؟؟ ..أجابه بأسى :لا ..لقد أصبحت حياتي كابوساً بسببها ..قال الشيخ – متفائلاً- : أنا أخبرك السبب، تعال معي ..وغاب الشيخ لحظةً ثم خرج وقد توشح سيفه،واتجها سوياً إلى مسجد القرية ،والصمت لهما رفيقاً !!
وعندما دلفا المسجد ،نظر الشيخ قليلاً إلى الشاب ،ثم صرف نظره إلى محراب المسجد قائلاً :
للأمل –يا بني- ثلاثة قلوب !! ليس واحدٌ منها ينال هاهنا.تقدم الشيخ وأشار إلى مصحفٍ على حامله ،وقال: هذا الأول: وهو الأساس..ثم أشار إلى المحراب ،وقال: وهذا الثاني :وهو العمود،ثم استل سيفه ورفعه عالياً ،وقال: وهذا الثالث :وهو ذروة السنام .
قال الشاب –مندهشاً-: أتقصد...؟؟؟؟؟ هزّ الشيخ رأسه قائلاً: أصبت كبد الحقيقة ..سادت لحظة صمتٍ طويلة ,,كان الشاب خلالها ينظر بعيداً ،والتفاؤل والإصرار يملآن ملامحه ، والشيخ يتأمله بسرور ..وبسرعةٍ خاطفة..أخذ السيف من يد الشيخ ،وخرج مسرعاً ،وامتطى صهوة الخيل ،ويمم وجهه شطر الشمال.إ.هـ.
***********************************************
دمتم بنقاء..