الإبنة التي ضلت السبيل
بقلم : نزار ب. الزين*
الجزء الثاني
بعد أيام ، حط العندليب على كتف زبرجد ، كعادته عندما يود أن يحكي لها خبرا ما ، و لكن خبر اليوم إختلف عن كل الأخبار ؛ فبينما كان جلالة الملك شومان ، ملك مملكة الدراوشة ، راكبا حصانه ليشرف بنفسه على عمليات البحث عن إبنته الضالة زبرجد كما كان يردد ، و قد استبد به هاجس السمعة و شعور الغضب لتأخر العثور عليها ؛ جفل حصانه فجأة ، فأوقعه أرضا بينما ظلت إحدى ساقيه معلقة بالركاب ، و ظل الحصان يعدو جارا الملك وراءه ، و كان كلما إزداد عدد الذين يحاولون إيقافه يزداد نفورا و هيجانا ، و ساق الملك لا تزال معلقة بركاب الحصان و رأسه ما زالت تتدحرج على الأرض ، و لم يهدأ الحصان إلا عندما أطلق عليه الجنود سهامهم و كانوا قد تأخروا بفعل ذلك خشية أن يصيب أحد السهام جلالته ؛ فهمد الحصان للحال ثم نفق ، أما جلالة الملك فحُمِل إلى القصر و ظل يصارع الموت إلى أن سلم روحه لباريها قبيل ساعة من الآن .
حزنت زبرجد ، و تساقطت دموعها رغما عنها ، فتقدم منها أصدقاؤها العندليب و الغزال و العنزة و الحمار الوحشي يواسونها ، و تساءل الحمار الوحشي :
- أتبكين من أهدر دمك و سعى لقتلك ؟ يا لك من ملاك طيب يا زبرجد !
أجابته بصوت متهدج :
- صحيح أنني لم أعرفه ، و مؤكد أنه كان ينوي إغتيالي ، و لكن لم يكن ذنبه بل ذنب العرافين و المنجمين ، أليس ذلك ما أخبرتني به يا عندليب ؟ و هو في جميع الأحوال – يا إخوتي و أحبتي - والدي و سبب وجودي .
*****
في القصر كانت الأحداث تتلاحق :
• راوند ، ولي العهد ، يتسلم الملك بعد أن بايعه الناس بالإجماع .
• جلالة الملك الجديد أصدر أمره الأول بإعادة الإعتبار للوالدة ، و قرر أن يطلق عليها لقب " جلالة الملكة الأم " .
• جلالة الملكة الأم كانت قبيل ذلك قد أسرت لجلالته ، بقصة زبرجد و ما رافقها من أحداث و ملابسات ؛ فصُدِم في البداية و صمم على التنحي لشعوره أن الُملْك ليس من حقه ، و لكنه عندما تأكد أنه إبن الملك الراحل شومان حقيقة ، لأن أمه كانت إحدى جواريه ، تمكن بذكائه و طيب إرادته ، من تقبل الأمر و تقدير الظروف .
• تعرف جلالة الملك راوند على والدته الحقيقية و أمر بإعتاقها ، و كرمها و أعلى من شأنها ، كما أعاد الإعتبار لوصيفة الملكة الأم .
• أرسل المنادين في كل أنحاء المملكة ، ليعلنوا عن وقف إهدار دم أخته غير الشقيقة زبرجد ، منذرا من يمسها بسوء بأوخم العواقب ، و منحها لقب أميرة ، و رصد خمسة آلاف دينار لمن يدلي بأية معلومات ترشدهم إلى مكانها .
• أصدر امرا بمنع جميع العرافين و المنجمين من دخول القصر .
*****
عقدت زبرجد إجتماعا مع أصدقائها العندليب و الغزال و العنزة و الحمار الوحشي ، لاستشارتهم حول نداء الملك الجديد ، فنصحوها جميعا بالعودة إلى القصر ، بعد أن زالت جميع الأخطار التي كانت تحيط بها .
قالت لهم دامعةً :
- ولكنني لا أملك ثوبا لائقا أدخل به القصر !
قال لها العندليب :
- بوسعي تدبير ثوب لائق بأميرة مثلك !
ثم حلق طائرا و توجه نحو بيت خياطة مشهورة في الجوار ، وقف على نافذتها و أخذ يغرد ، فلفت شدوه المثير نظر الخيّاطة ، فنهضت و تقدمت منه سائلة :
- أشعر بأنك تريد أن تطلب مني طلبا غاليا يا عندليب .
أجابها فرحا :
- أغلى طلب لأغلى إنسانة ، صبية في الرابعة عشر ، جمالها فاق كل جمال ، و رقتها فاقت كل إحساس ، و طيبها قارب طيب الملائكة ، إنها تحب كل الحيوانات و كل الطيور ، و تعشق الطبيعة بأشجارها و أنهارها و مروجها و سمائها ، و تحب الناس كل الناس ، حتى من أساء إليها ؛ جئت أرجوك – و قد سمعت بمهارتك - أن تصنعي لها ثوبا من الحرير يليق بها .
أجابته مبتسمة :
- على العين و الراس ، و لكنني لا أملك حريرا ، يا عندليب ، أحضر لي الحرير و انا أخيط لها ثوبا لم تحلم بمثله الأميرات .
طار في الحال ثم حط فوق شجرة توت باسقة ، وقف على أحد أغصانها و أخذ يغرد ، فلفت شدوه المثير نظر أميرة القز ، فزحفت حتى اقتربت منه سائلة :
- أشعر بأنك تريد أن تطلب مني طلبا غاليا يا عندليب .
أجابها فرحا :
- أغلى طلب لأغلى إنسانة ، صبية في الرابعة عشر ، جمالها فاق كل جمال ، و رقتها فاقت كل إحساس ، و طيبها قارب طيب الملائكة ، إنها تحب كل الحيوانات و كل الطيور ، و تعشق الطبيعة بأشجارها و أنهارها و مروجها و سمائها ، و تحب الناس كل الناس ، حتى من أساء إليها ؛ جئت أرجوك – و قد سمعت بنفوذك في مملكتك - أن تمنحيني بعض خيوط الحرير لأقدمه للخياطة التي قبلت بكل رضا و كرم ، أن تخيط لها ثوبا يليق بها .
أجابته مبتسمة :
- على العين و الراس ، و لكن عليك قبل ذلك أن تحمل الخيوط التي سآمر شقيقاتي بإنتاجها لك ، إلى الغزّالة التي ستغزل لها القماش اللازم لصناعة الثوب المنشود .
و ابتدأت ديدان القز بإنتاج خيوط الحرير ، حملها العندليب شاكرا ، و مضى إلى بيت الغزّالة ، فوقف على نافذتها و أخذ يغرد ، فلفت شدوه المثير نظر الغزّالة ، فنهضت و تقدمت منه سائلة :
- أشعر بأنك تريد أن تطلب مني طلبا غاليا يا عندليب .
أجابها فرحا :
- أغلى طلب لأغلى إنسانة ، صبية في الرابعة عشر ، جمالها فاق كل جمال ، و رقتها فاقت كل إحساس ، و طيبتها قاربت طيب الملائكة ، إنها تحب كل الحيوانات و كل الطيور ، و تعشق الطبيعة بأشجارها و أنهارها و مروجها و سمائها ، و تحب الناس كل الناس ، حتى من أساء إليها ؛ جئت أرجوك – و قد سمعت بمهارتك - أن تصنعي لها قماشا من خيوط الحريرالتي أحملها لك ، لتصنع منه الخياطة ثوبا يليق بها .
أجابته مبتسمة :
- على العين و الراس ، أمهلني ساعة واحدة ، و سيكون القماش جاهزاً .
و بعد أقل من ساعة سلمته القماش و هي تطلب منه أن يمر من حين لآخر على نافذتها ليسمعها شدوه الجميل ، فوعدها بذلك ثم حلق مسرعا بالقماش إلى أن حط على نافذة الخياطة .
- إليك القماش يا خالتي الخياطة .
أجابته مبتسمة :
- و لكنني أريد صاحبة الشأن ، لأحصل على مقاساتها .
فأجابها سمعا و طاعة ، ثم حلق للتو و اللحظة ليحط بعد قليل فوق كتف زبرجد ، فأخبرها بمساعيه و أن الخياطة تطلبها لتأخذ مقاساتها .
*****
ما أن رأتها الخياطة ، حتى هبت واقفة و قد أصابها الذهول :
- الأميرة زبرجد ؟ حبيبتي ..؟!
أجابتها زبرجد و قد عقدت المفاجأة لسانها :
- أم جهبذ الخياطة ؟ ألا ما أسعد حظي ، ثم تعانقتا طويلا ، ثم التفتت نحو أصدقائها قائلة :
- هذه خياطتي أم جهبذ يا أحبائي ، و التي خاطت لي جميع أثوابي منذ كنت طفلة صغيرة ، عندما كنت في سجني الطويل .
ثم التفتت إلى أم جهبذ معرِّفةً :
-هؤلاء أهلي و إخوتي و أحبتي : العندليب ، أحبني و أطربني و رعاني ؛ العنزة أرضعتني من لبنها و أحاطتني بحبها ، الغزال ، حماني و منحني الدفء و الحنان ، الحمار الوحشي ؛ سافر بي بعيدا عن الأخطار .
حيتهم الخياطة أم جهبذ بكل ود و إحترام ، و أرسلت من يشتري لهم أفضل أنواع البرسيم .
و بدأت زبرجد تحكي لها ما جرى معها منذ أن بدأت تحفر النفق ، و كيف تمكنت من مغادرة القبو ، و كيف تعرفت على أحبتها العندليب و الغزال و العنزة و الحمار الوحشي ،
، بينما كانت أم جهبذ تصنع لها ثوبا لم ترتدِ مثله أعلى الأميرات شأناً .
و ما أن أنجزته حتى اقترحت عليها أن تذهب بنفسها إلى القصر لتخبر والدتها بأمر العثور عليها ، فوافقت .
*****
عندما عرفت الملكة الأم بأمر العثور على ابنتها زبرجد أغمي عليها من شدة الفرح ، ثم ما أن أفاقت من إغمائها حتى أطلقت الزغاريد فتجاوب معها كل من في القصر من جوارٍ و أميرات ، ثم ارسلت تستدعي جلالة الملك راوند .
زفت إليه الخبر و هي تقول له :
- لقد ضلت زبرجد سبيلها ، و لكنها لم تضل فقد حافظت على أخلاق الملوك ، ألا كذب المنجمون و لو صدقوا .
أمر جلالته بمنح الخياطة أم جهبذ خمسة آلاف دينار كما كان قد وعد ، ثم أمر بتجهيز موكب ملائم توجه على رأسه إلى بيت الخالة أم جهبذ .
كان اللقاء مثيرا و رائعا ، فقد ضمها جلالته إلى صدره و قبل رأسها ، ثم قادها إلى عربة خاصة إزدانت بالأعلام و الورود ، أُعدت خصيصا لها .
و لكن زبرجد تلكأت و أسرَّت لأخيها الملك برغبتها باصطحاب أصدقائها العندليب و الغزال و العنزة و الحمار الوحشي ، و شرحت له أفضالهم عليها ، فوافق و أمر لهم بعربة أخرى ترافقهم .
و سار الموكب نحو القصر ، تتقدمه الطبول و المزامير ، و خرج أهل المدينة يحيون جلالته و أخته الأميرة زبرجد .
و على باب القصر استقبلتها أمها بالأحضان و الدموع ، ثم أُعلنت الأفراح و الليالي الملاح ، سبع أيام بلياليها ، لا ياكل أحد – خلالها - أو يشرب إلا على مائدة جلالة الملك راوند إبن شومان .
و توتة توتة ، خلصت الدوتة*
---------------------
* خلصت الحدوتة : إنتهت الحكاية
---------------------
*نزار بهاء الدين الزين
مغترب سوري
عضو إتحاد كتاب الأنترنيت العرب
البريد : nizarzain@adelphia.net
الموقع : www.FreeArabi.com