النص الكامل لرواية «حكايات الفصول الأربعة» للروائي الكبير محمد جبريل
.................................................. .................................................
" أن تعيش كى تموت فحسب ، هو أمر لا يبعث على السرور "
تشيخوف
(1)
تشرد عيناك فى تلاقى البنايات والسماء والأفق ..
شمس الضحى تصبغ الواجهات والأسطح والمدى . أسراب الطير تلتمع فى وهج الأشعة كنثار الفضة . تحط على الأمواج ، تلتقط الأسماك ، ثم تعاود الطيران . الفلوكة الصغيرة تتمايل وهى تجر الطراحة فى عومها المتباطئ . أصداء إيقاع الأمواج تنداح على الشاطئ . أصوات الطريق شاحبة من وراء النافذة الزجاجية المغلقة ..
حين ترامى صوت من الطوابق التحتية : المصعد معطل ، اصطدم كل ما أعددت له نفسك بحائط مسدود . لم تعد تملك التصرف الذى يصلك بالأماكن التى كنت تعد نفسك للذهاب إليها فى داخل المدينة ، مقهى التريانون ، مكتبة دار المعارف بالمنشية ، مبنى الغرفة التجارية . تقدم ترجمة تقرير إنشاء منظمة التجارة العالمية . قواعد جديدة ومبادئ للمعادلات التجارية والاقتصادية فى العالم . بدا الفرق هائلاً ـ فى الأرقام ـ منذ بدأت الترجمة للغرفة التجارية حتى بلغت الخامسة والسبعين . رحل الأجانب ، فغابت تأثيراتهم . تأتى التأثيرات من الخارج . العولمة ، تعبير لم تقرأ عنه جيداً . التأثيرات واضحة على الحياة التجارية فى المدينة .
نزع الجاكت بنية الاسترخاء قرار أملته الظروف ..
الصعود إلى الطابق الثانى عشر ، لم يعد متاحاً منذ ذلك المساء الذى ارتميت فيه ـ بثياب الخروج ـ على أول كرسى تصادفه فى الصالة . خانك الجسد ، وتهيأ للسقوط .
همست من بين لهاث أنفاسك :
ـ الشيخوخة !
ثم فى كلمات متهدجة :
ـ تقدم العمر يعطى تأثيراته !
ربما هى فرصة للانفراد بالنفس ، أو للراحة ..
لم تعد تجلس إلى مكتبك ، أو تتحرك من موضعك ، إلا بجهد تشعر به وإن حاولت إخفاءه . كأنك تدارى ما يجب ألاّ يعرفه الآخرون . حتى إيناس أخفيت عنها متاعبك . تنشغل بالقراءة ، أو بالترجمة . الطابق الثانى عشر تصل إليه الأصوات من أسفل كالأصداء البعيدة . ربما أدرت جهاز الريكورد بموسيقا بيتهوفن وبرامز وباخ وسترافينسكى . تجتذبك شهرزاد كورساكوف . تنقلك إلى جزيرة مفعمة بالحنين والشجن . تنعزل عن كل ما حولك ، وتغيب أصداء حركة الطريق . لا شىء ، إلا القراءة والترجمة .
قلت للطبيب :
ـ حتى الفيتامينات لا تساعد على استعادة نشاطى القديم ..
قال الطبيب مداعباً :
ـ العطار لا يصلح ما أفسده الدهر ..
ثم احتواك بنظرة مشفقة :
ـ ماذا تقول أم كلثوم ؟
ثم بصوت مترنم :
ـ عايزنا نرجع زى زمان .. قول للزمان ارجع يا زمان ..
وأعاد السماعة الطبية إلى موضعها على المكتب :
ـ تقدم السن له أحكامه يا سيد رفعت ..
أعدت ما قاله الطبيب على أنور عيسى فى الغرفة التجارية ..
أذهلك تأمينه على كلمات الطبيب : يصبح المرء ـ بالشيخوخة ـ بيتاً آيلا للسقوط . ما يفعله الأطباء أشبه بعمليات الترميم ، فيتأخر سقوطه ، لكنه يعانى خطر الانهيار فى لحظة ما متوقعة . بواعثه لها تسميات عدة : أزمة قلبية ، ارتفاع فى ضغط الدم ، ذبحة صدرية ، هبوط فى الدورة الدموية ، التهاب رئوى ، وغيرها من المسميات التى تمثل أنفاقاً إلى الموت !. ماذا لو عرف المرء موعد موته ؟ هل يعد له نفسه ، أو يموت فى خوف الانتظار ؟
تحدث عن آلام الساقين . همس بتخوفه من أن تلزمه البقاء فى البيت :
ـ هل أضيف جلسة القهوة إلى رصيد الذكريات ؟!
تدور نظراتك فى الشقة ، كأنك تراها للمرة الأولى ..
الصالة المربعة ، تناثرت على مساند الفوتيلات والترابيزات الصغيرة وسطح التليفزيون قطع بيضاء مستديرة من الكروشيه . فوق الأرفف مجلدات قديمة تآكلت أغلفتها . تتوسط السقف نجفة تتدلى منها عشرات اللمبات البلحية الشكل . على البوفيه شمعدان من الفضة ذو فروع ثلاثة . على الجانب الأيسر ـ قبالة الشرفة المستطيلة ، والنافذة ـ حجرة تطل على البنايات المجاورة . على الجانب الأيمن طرقة قصيرة تفضى ـ من ناحية ـ إلى المطبخ والحمام ، ومن اليمين ، وفى المواجهة ثلاث حجرات متلاصقة ..
مدحت ـ شقيق رئيفة ـ هو الذى دلّك على هذه الشقة ..
أدهشك موقعها المطل ـ فى طابقها الثانى عشر ـ على شبه جزيرة الإسكندرية . البحر من الجهات الثلاث والكورنيش والبيوت والجوامع والساحات والشوارع والأسواق . لما خصّت إيناس أمها بالسر الذى أخفته عن الجميع ، طالبت رئيفة بحجرة لإيناس لا يشاركها فيها أحد . شقة شارع فرنسا ذات الحجرات الثلاث لم تكن تسمح بذلك . حجرة لكما ـ رئيفة وأنت ـ والثانية للأبناء الثلاثة ، والثالثة للسفرة ، والصالة للاستقبال ..
وأنت تميل من شارع الغرفة التجارية إلى شارع الإبيارى ـ ثالث أيام انتقالكم إلى العمارة ـ تنبهت إلى أنها تحتل الزاوية نفسها التى كانت تحتلها سينما كونكورديا . موقع سينما كونكورديا نفسه قبل هدمها ..
اكتفيت بالقول لرئيفة :
ـ هذه البناية فى موضع دار سينما ، شاهدت فيها الكثير من الأفلام الأجنبية ..
الشقة الجديدة اكتشاف أسعد الجميع ..
تحدثت رئيفة عن الأحلام التى تحققت ، بالأبناء الثلاثة ، وبالشقة المطلة على الكورنيش ، وبالمساحة التى تزيل الحرج . استقلت إيناس بحجرتها ، وإن اعتادت جلوسك على مكتبها فى أوقات المدرسة . تلاشى الحرج فى حياة الولدين داخل حجرتهما . ألصقا على الجدران قصاصات من صور المجلات : جيمس دين وألفيس بريسلى ومارلين مونرو وإستر وليامز وعبد الحليم حافظ وشادية وصباح . لم تعن بالسؤال ما إذا كان هانى أو مسعد هو الذى ألصق الصور ، وإن اتفقا فى حب الموسيقا والغناء ومشاهدة الأفلام . المكتبة الخشبية الصغيرة ـ فى ركن الحجرة ـ خلت إلا من الكتب الدراسية . لم يكن بينها ما تتعرف به إلى نوعية قراءاتهما . نقل التليفزيون من حجرة السفرة إلى الصالة الواسعة ، المطلة على البحر .
لما نظرت ـ للمرة الأولى ـ من نافذة الطابق الثانى عشر ، أحسست بدوار ، وما يشبه الميل إلى إلقاء نفسك . أدركت أنك تعانى عقدة الخوف من الطوابق العليا ..
اكتفيت ـ فى الأيام التالية ـ بالنظرة الخاطفة السريعة . ثم ألفت المشاهد دون أن تشعر بالدوار ، أو بالميل إلى إلقاء نفسك ، أو تغادر موضعك ..
أدرت الريكوردر ..
ليلى مراد . ماتت أمس . لم تغادر الشقة . أسلمت الذهن ـ بالأغنيات الجميلة ـ إلى شرود ، وذكريات ، وملامح مختلطة ، ومتشابكة . الماضى المجهول ، وقفت أمام شباك التذاكر فى سينما محمد على ذات النسق المعمارى الإيطالى . مشاعرك تختلف عن مشاعر حدثتك عنها رئيفة . أهملت إشفاقك على حملها فى أول الأبناء . أحبت ليلى مراد منذ " يحيا الحب " . رويت حكايات عن أحمد سالم ، استفزت فضولك لمشاهدته . أحببت أغنيات ليلى مراد لحب رئيفة لها . أحببت كل ما أحبته ..
قالت :
ـ فلنأخذ إجازة فى مرسى مطروح ؟
ـ لا بأس بالإجازة .. لكن لماذا مرسى مطروح ؟
وشى صوتها باللهفة :
ـ أزور شاطئ الغرام !
يرافق انحسار أشعة الشمس من داخل الحجرة صوت الأذان من مسجد قريب . لا تحدد مسجداًُ ، فالأذان يرتفع حتى من الزوايا الصغيرة ، والحصير المفروش داخل الحدائق ، وفى المساحات الخالية بين البنايات ..
تقف وراء النافذة الزجاجية المطلة على المينا الشرقية . فى مدى الأفق مبانى السلسلة ، و حاجز الأمواج المتصل ـ فى الناحية المقابلة ـ بقلعة قايتباى . لا نهائية أفق البحر إلى ما بعد المصدات بين السلسلة وقلعة قايتباى . تهبك الشعور بالامتداد . تغيب اللحظة فى توالى الأمواج من نقطة غير مرئية . تذوى ـ فى سطح المياه العريض ـ احتمالات القلق . يغيب حتى الإحساس بالعمر ، يفقد الاتصال بين ما قبل ، وما بعد ..
لما اقتحمتك نظرات الرجل ذو الشارب الأشيب ـ قبل أن تصبح السلسلة منطقة عسكرية ـ أعدت التلفت لتواجهك النظرة التى كأن الرجل خصّك بها . كنت فى التاسعة والعشرين . تناثر فى المكان جنود يمتشقون الأسلحة ، ودبابات ..
ـ حاول أن تقف بعيداً ..
حدجته بنظرة مستفهمة :
ـ لماذا ؟
ـ المدينة فى حالة طوارئ ..
تستعيد ـ بعفوية ـ أحداث الليلة السابقة : الدبابات تهدر على طريق الكورنيش . المسافة قصيرة من البيت القديم بالحجارى إلى الطريق . أربع أو خمس دبابات يتقدمها ، ويتبعها ، موتوسيكلات ولوريات تحمل جنوداً ، أمسكوا بالبنادق والمدافع الرشاشة . تشق طريقها ـ وسط الجموع الواقفة ـ إلى سراى رأس التين . أعداد من عمال ورش المراكب ، والصيادين ، والمطلين من النوافذ ، والواقفين على أبواب البيوت والدكاكين ، والمارة . يضع الجنود الكردونات أمام الحديقة الواسعة ، ويصطفون . تهمس التعليقات ، وتتعالى ..
قلت :
ـ أفلح الجيش فيما عجزت عنه الأحزاب ..
قال كامل عبد الرحيم :
ـ قطف الجيش فى ساعة ما عمل المصريون لتحقيقه فى سنوات ..
ثم وهو يهز إصبعه :
ـ لا تظلم من ماتوا أو قتلوا لإسقاط النظام ..
قال عبد المنعم فرغلى :
ـ احتمال أن يحكم مصرى واحد من أبنائها ..
قال حنفى جامع :
ـ هل يتكرر ما حدث فى سوريا ؟
قال كامل عبد الرحيم :
ـ أنا لا أطمئن إلى جيش المحمل ..
وأنت تنظر إلى كامل عبد الرحيم بجانب عينك :
ـ لعلهم يجبرون الملك على إعادة النحاس ..
قال عبد المنعم فرغلى :
ـ المهم أن تعود البلاد إلى أبنائها ..
حين بدأت يومك الأول فى سراى الحقانية ، تذكرت قول أبيك وهو يطوى الجريدة ، ويضعها على الطاولة :
ـ إلغاء المحاكم المختلطة بداية النهاية لوجود الأجانب فى مصر ..
قال جابر عثمان ، صديق أبيك :
ـ أمنية مستحيلة ! إنهم موجودون فى الهواء الذى نتنفسه ..
حرصت على أن تحضر آخر جلسات المحكمة القنصلية فى 14 أكتوبر 1949 . لم تخف تأثرك لكلمات القضاة والمحامين ، لكنك شاهدت نهاية نظام قضائى دام أربعة قرون .
الحقانية هى المكان الذى كانت تشغله المحاكم المختلطة . لم يدر فى بالك أن تخلف فيها أباك . عمل موظفاً فى الأرشيف ، وعملت موظفاً فى إدارة الترجمة .
قال أبوك :
ـ هل عندك مشوار بالقرب من شارع المسلة ؟
قلت :
ـ تقصد صفية زغلول ؟
ـ ما أذكره هو المسلة ..
ـ عندى موعد فى التريانون ..
ـ لم نكن نقصده على أيامنا ..
ثم وهو يدفع لك أوراقاً :
ـ هذه نتيجة التحليل .. يريدها الدكتور سيمون ..
وأومأ برأسه :
ـ عيادته على ناصية الفلكى والمسلة ..
ثم وهو يربت كتفك :
ـ أقصد صفية زغلول ..
وأنت تحتضنه بنظرة مشفقة :
ـ هل فقدت الثقة فى الدكتور حسن النجار ؟
ـ لا بأس به .. لكن الأوروبى أفضل !
(يتبع)