(قصة قصيرة من أوراق قديمة)
الشيشة
كان الترحيب به في المقهى شديداً، مر وقت طويل منذ آخر مرة ارتاده فيه، تزاحم حوله الأصدقاء، يصافحونه ويعانقونه ثم جلسوا جميعاً حول منضدة واحدة يتسامرون. جاء النادل يسأل عما يقدمه لهم فكانت الإجابة واحدة من جميع أصدقائه (نريد شيشة) ، ولم يكن هذا الطلب الجماعي لتدخين الشيشة غريبا على النادل فالمقهى يشتهر بتقديم أفخر أنواع الشيشة وأفضلها كما أنه يمتاز بموقعه المتفرد على الشاطئ حيث يمتد سطح البحر أمامه حتى نهاية الأفق. غير أن النادل أجاب متلعثماً معتذراً بعدم استطاعته تلبية الطلب فالمقهى مزدحم وقد نفدت الشيشة ولم تبق منها إلا واحدة فقط لن تكفيهم ، ورجاهم الانتظار بعض الوقت حتى ينتهي بعض الرواد من تدخينها ويتوفر العدد اللازم وحينئذ يقوم بتقديمها لهم. نظر الأصدقاء بعضهم إلى بعض وكأنهم اتفقوا دون حديث وقالوا لا بأس أحضر الشيشة الجاهزة الآن وسنشترك في تدخينها جميعاً. أسرع النادل ملبياً الطلب وأحضر شيشة بديعة جميلة متعددة الألوان يشف زجاجها البلوري عن ماء يتلألأ داخله. بدأ الأصدقاء يدخنون الواحد تلو الآخر والحديث يدور بينهم في أمور شتى جلها لقتل الوقت. وجد عينيه تنظران للماء فى بلورة الشيشة فكلما قام أحدهم بأخذ نفساً عميقاً من مبسم الشيشة بفمه كلما دخل الهواء إلى الماء وامتزج به ومر من خلاله جعله يترجرج ويضطرب كأنه ماء يغلى داخل إناء ولكن دون حقيقة غليان. يخرج الهواء من البلورة ليمر فى نفق مظلم ويستقر فى مستقره المنشود بالصدر فينتشى صاحبه ولا يلبث أن يخرجه زفيرا طويلاً في الهواء وهو يتأمل الدخان يبتعد ويتباعد هنا وهناك حتى يختفي رويداُ رويداً في الأفق العريض. تناوب الأصدقاء الشيشة وتنقلت من فم لفم وهو مازال ينظر للماء الذي يغلى دونما غليان حتى جاء دوره فقدم له صديقه الجالس بجواره مبسم الشيشة وقربه من فمه وقال له الآن جاء دورك. لم يجد إلا ابتسامة معبرة تقتحم وجهه العابس وترتسم عليه وببطء شديد دفع بيده ذراع الشيشة ناحية صاحبة وقال بهدوء لقد توقفت عن التدخين منذ كنا معا آخر مرة، نظر للماء فى البللورة وقد بدأ يتغير لونه الشفاف ويتعكر ، نادى على النادل وهتف به أن يحضر زجاجة ماء معدنى مثلجة وراح ينظر للأفق وهو يتخيل الدخان المتصاعد وقد تجمع سحباً مبعثرة هناك ويذهب معها بعيداً ... بعيداَ