جوستاف فلوبير..
نموذج مدام بوفاري ومقارنته بالاخرين
ينتمي الكاتب الفرنسي جوستاف فلوبير( 1821-1880 ) الى المدرسة الواقعية في الادب،وعادة ما يتم النظر الى روايته المشهورة(مدام بوفاري) بعدها اول رواية واقعية،وهو الذي تابع المشروع الروائي الواقعي،الذي بدأه كتاب فرنسيون اخرون،وارسى قواعده،الا انه بالرغم من انتمائه الى المدرسة الواقعية يظل ذلك الكاتب الذي زاوج بين واقعيته وبين ميله الرومانتيكي،الذي ظهر جليا في روايته(سالامبو) وفي تضاعيف رواياته الاخرى،التي حملت عنوانين:( اغراء القديس انطونيوس)و(التربة العاطفية)، فضلا عن روايته (مدام بوفاري).
وعلى خلاف الكتاب الرومانتيكين الذين يعتمدون على الخيال والعواطف المتقدة في التعبير الادبي،تميز جوستاف فلوبير بقدرته على الملاحظة الدقيقة،وعلى توصيف النماذج البشرية العادية توصيفا دقيقا والاستعانة بالعقل،والرؤية الموضوعية،بدلا من نظيرتها الذاتية،التي يتصف بها الكتاب الرومانتيكيون عادة،والواقع انه الكاتب الذي لم يكن بنفر من الواقع على غرار ارومانتيكين،بل كان يعتقد ان الفن الحقيقي هو الفن الموضوعي وان الفصل بين الفنان كذات،وفنه كموضوع ضروري،ومع ذلك فانه الكاتب الذي يمثل المذهبين الواقعي والرومانتيكي،بطريقة وباخرى.
وفي رواية (مدام بوفاري)،يصور جوستاف فلوبير التطورات الطارئة على بطلة الرواية ايما بوفاري،من الناحيتين السيكلوجية والاخلاقية،ةفضلا عنها كنموذج بشري انثوي عادي فانه يصور طبائع وامزجة عدد من الشخصيات الاخرى،وكلها نماذج عادية تحيا في الواقع الاجتماعي وتنتمي الى الطبقة الوسطى ولها اهتماماتها واهدافها،ومشاريعها العادية،وبالفعل فان توصيف النماذج التي تحيي الواقع ليس عملية يسيرة،وجوستاف فلوبير وفق هذا المنظور،رواءي وفنان واقعي بامتياز وهو قادر على رصد الطبائع البشرية ومعرفتها معرفة عميقة،على خلاف الرؤية الفلسفية التي تؤدي بالفيلسوف عادة الى معرفة الانسان ودوافعه وحوافزه والاخلاقيات التي يؤمن بها فردانيتهم،وهذه الظاهرة موجودة على نكطاق واسع لدى الفلاسفة، بالرغمن من طاقاتهم الكبيرة على التحليل السيكلولوجي للطبائع البشرية،على ان جوستاف فلوبير لم يكن فيلسوفا،بل روائيا وفنانا واقعيا.
ومما تتصف به بطلة الرواية ايما بوفاري،ميلها الى التعالي الذاتي على الطريقة الرومانتيكية وكانت قراءاتها في الادب الرومانتيكي،واطلاعها على رواية بول وفرجيني للكاتب الرومانتيكي برناردين دون سان برنار( 1737-1832)،فضلا عن اشعار الفونس دو لامارتين( 1790-1869 ) العاطفية،والحكايات التاريخية للكاتب الانكليزي سيروالتر سكوت( 1771-1832 ) قد ادت الى تعلقها بهذا النوع من الادب،والى ميلها الى الارتقاء بذاتها والتطلع بأمل الى المستقبل،والنفور من الحاضر،الذي يتصف بالافتقار الى الفاعلية، والنشاط،وان زواجها من الطبيب التقليدي شارل بوفاري ادى الى زيادة احساسها بالغراغ،ورغبتها في الانعتاق من القيد الاجتماعي الذي يكبلها،ويمنع روحها من التعالي والارتقاء،والواقع ان شارل بوفاري على درجة كبيرة م المحدودية،على كل المستويات،الفكرية والشعورية،وهو على دراية بان زوجته تتفوق عليه من الناحية الجوانية،الى الى الحد الذي يجعله يرتبط بها ارتباطا وجدانيا وثيقا،يبدو على حقيقته في اخر الرواية،عندما تصل ايما بوفاري الى نهايتها التراجيدية،فتقرر الانتحار،بعد اخفاقها في ايجاد الحبيب الذي تتطلع اليه نفسها،وبناء لاعلاقة الغرامية التي تتوق اليها روحها، المتعطشة للحب،وهو مايؤدي بزوجها شارل بوفاري،الى الموت حزنا وكمدا،على زوجته الراحلة،هذا مع علمه خياناتها المتكررة، وهنا تجدر الاشارة الى انها تعلن،قبل وفاتها،حبها له،مما يدل على ان مشروعها الروماتيكي قد اخفق اخفاقا تاما،الى لاحد الذي جعلها تعود الى زوجها الشرعي،عودة اشبه بعودة التائب،الذي يحاول الانعتاق من الاخطاء التي ارتكبها،وتحتم عليه ان يدفع لقاءها ثمنا باهظا.
وفي الابداعات الادبية،تطالعنا في الكثير من الروايات،نماذج بشرية شبيهة بما نلقاه في رواية(مدام بوفاري)،فالبطل سانتياغو في رواية الخيميائي للكاتب البرازيلي باولوكويلهو يحلم ويتطلع الى واقع اجدر بالانسان،وبالطبيعة البشرية،من الواقع الذي يحيا فيه،وتطلعه هذا تطله سيكولوجي اخلاقي ذاتي على الطريقة الرومانتيكية،التي تتجاوز العوائق كلها،كي تتحول الى تطلع ثيوصوفي قادر على النماء،وعلى تحقيق النجاح الموصول،لكنبائ ع الكريستال يرضي بالواقع،ولايتطلع الى ابعد من الحال،التي هو عليه،كنموذج البطل شارل بوفاري،الا ان الفارق يظل كبيرا بين بطلي الروايتين،فالبطل سانتياغو قادر على مواصلة التعالي الذاتي،وعلى الالتقاء باللامتناهي،بالرغم من العوائق القدرية،القادرة على عرقلته،وافشال مشروعه الثيوصوفي،لكن الدافع الروماتيكي يكون اكثر تواضعا،لدى كثيرين،ممن يحاولون عبور هذه الطريق،الوعرة المسالك،والطموح هنا دال على تدهور من الناحية الجوانية،وليس طموحا محمودا،كذاك الذي نصادفه لدى البطلة ايما ،في رواية (مدام بوفاري) او لدى البطل سانتياغو في رواية (الخيميائي).
والطموح بنوعيه الموصوفين يكون متناهيا او لامتناهيا،فالبطلة ايما يحركها طموح رومانتيكي متناه،والبنتان العاقتنان جونريل وريغان يحركهما طموح دنيوي متناه كذلك الامر،في حين ان طموح البطل سانتياغو ثيوصوفي،روحي لامتناه،وهو يهدف الى الوصول الى اللامتناهي ذاته،وعلى نقيضه فان طموح البطل ماكبث في مسرحية (ماكبث)،لوليم شكسبير طموح لامتناه في خبثه،وهو يهدف الى الاستيلاء على السلطة، وكبت الحريات والاستبداد بالحكم من اجل تلبية دافع اناني اثيم.
وعلى غرار ايما بوفاري يتصف ليون بميله الرومانتيكي وسعيه الى تجاوز واقعه،والارتقاء بذاته ،في حين ان رودولف يمثل الرؤية لعملية النفعية وهو يتمكن من اغواء ايما،وايقاعها في حبائله،ويرفض الزواج منها وكمثله يتصرف ليون وهو مايدل على ان الطبائع البشرية الموصوفة عايدة وتنتمي الى الطبقة البرجوازية،المتوسطة،التي لم يكن جوستاف فلوبير قادرا على تقبل طبائعها،وسلوكياتها والواقع انها نماذج لاتتصف بالاصالة والفروقات التي تميزها عن بعضها فروقات ليست مهمة،فالبيئة القادرة على انجاب ليون،الرومانتيكي العاجز عن الارتقاء برومانتيكيته،ارتقاءا موصولا،قادرة بالمثل على انجاب رودولف الذي يتصف بالطبيعة العملية النفعية،وفي هذه الحال يسيطر الزيف على الخطاب الرومانتيكي الاخلاقي،لانه غير قادر على تحقيق انتصارات لها شأنها، مما يؤدي به الى اتخاذه صورة القناع والى اتخاذ العلاقات الانسانية صورة زائفة وغير قادرة على ان تكون اصيلة،وهكذا فان الصدق البادي في اقوال وافعال النماذج البشرية ابما هو على المستوى الذاتي موصول وحقيقي،وبالرغم من الاميال الرومانتيكية والاخلاقية الخيرة فان التراجيدية تقع،وتنتهي الاحداث بالموت على المستوى السيكولوجي لدى البطلة ايما بوفاري،وفي هذا دليل على ان النماذج البشرية تفتقر الى البنيان المتماسك والقادر على اجتياز تجربة الحياة بنجاح وثقة.
وبالمقارنة مع كاتب رومانتيكي كجبران خليل جبران( 1883-1931 ) تبدو الفروقات كبيرة بالفعل،فالكاتب اللبناني لم يكن ينظر الواقع عندما ينظره الا من خلال رومانتيكيته،وهوالكاتب الذي توغل وراء ميله الرومانتيكي،الى اقصى درجة ممكنة،حتى انتهى به المطاف الى تبني الرؤى الصوفية والثيوصوفية،على انه في السياق الرومانتيكي ذاته،توغل توغلا عميقا جدا على ماهو عليه الحال في خاطرته(حفار اقبور)،التي افتتح بها كتابه(العواصف)،وبالرغم من الصداقة التي ربطته بالكاتب الصوفي الاخر ميخائيل نعيمه( 1889-1988 ) فان هذا الاخير بدا مستغربا للاله المجنون الذي التقاه جبران خليل جبران في وادي ظل الحياة، المرصوف بالعظام والجماجم،وهناك من يرى ان هذه الخاطرة بالذات نتاج تأثر مباشر فالفيلسوف الالماني فريدريك نيتشه( 1844-1900 ) وفلسفته الارادية السوبرمانية،الا ان الواضح ان جبران خليل جبران لم يكن قادرا على النظر الا انطلاقا من ذاته،وان تاثير الفيلسوف الالماني يتضح هنا،فقد ادى الى محاولة جبرانية ذاتية تستهدف الاندفاع الارادي الذاتي اندفاعا راديكاليا،لايتوافق مع الرؤى الفلسفية،والتي اقرها الفيلسوف الالماني،فالخاطرة مبالغة رومانتيكية،والاله المجنون يمثل نقيضا ممكنا،للغاية الثيوصوفية الحبرانية،ومن الطبيعي ان ينطوي جبران خليل جبران على نقيضه لكن الغريب هو تبنيه للطرح الذي يقدمه الاله المجنون،ذو الميل الشيطاني،الذي يدفعه الى التجديف على الشمس ولعن البشر،وعبادة النفس،وفي مقابل الطبيعة الرومانتيكية الجبرانية تطالعنا الطبيعة الارداية للفيلسوف الالماني فريدريك نيتشه،وهي الطبيعة التي استنكرت في سياق بحثها الفلسفي الرومانتيكية،كسيكولوجية عمت اوربا في القرن التاسع عشر.
وهنا يمكن تفهم رؤية الكاتب الفرنسي جوستاف فلوبير اكثر فاكثر،وهو الكاتب الذي يرفض التهويمات الرومانتيكية،ويعتقد انها تنتمي الى الخداع فالكاتب الرومانتيكي الذي يتجاوز الحدود الرومانتيكية المقبولة،انما يموه على نفسه،وعلى قارئه،ومع ذلك فاننا بحاجة الى الرومانتيكية، التي تتهافت لتؤدي بنا الة اعتناق الواقعية،التي تتهافت بدورها،وكل هذا يحدث تحت تاثير الرتابة السيكولوجية التي تستولي على السياق الحياتي الاجتماعي باكمله وتدفع الناس باجمعهم الى التنقل من حال الى حال، واذا كان لابد من كلمة اخيرة بهذا الشظان فان تمثيل النزعتين الرواقعية والرومانتيكية،يظل اقرب الى الطبيعة الحياة وهو ينطوي على اعتراف واقعي بالحياة،لدى جوستاف فلوبير تظل الميول الرومانتيكية واقعة تحي سيطرة الميول الواقعية،وغير قادرة على الاستبداد بالنموذج البشري،الذي يمثلها،والتحول الى اوليغاركية قائمة في دواخله، وهو الكاتب الذي احب كوكبة من الكتاب الذين تمكنوا من التعبير في اثارهم الادبية عن النزعتين الواقعية وزالرومالنتيكية،في الوقت نفسه،ثم انه الكاتب الذي لم يتنكر للخيال العظيم،والذي احب المناظر التي تنطوي على الفخامة،ولهذا علاقة وثيقة بطبائعه،وحوافزه السيكولوجية الذاتية.
ان اهم ميزة في رواية(مدام بوفاري)، وفي مؤلفات جوستاف قلوبير كلها،هو نزعته الواقعية،وفي هذا السياق يبدو الكاتب الفرنسي اقدر على الرؤية،من الرومانتيكيين،الذين ينظرون الواقع من خلال رومانتيكيتهم،ومما دعا الىه ضرورة تحييد المشاعر الذاتية،لدى اطلاق الاحكام على الاخرين،فالفن ينبغي ان يكون موضوعيا،والواقع ان الوقوع في الخطأ شائع،فالشاعر الرومانتيكي عمر ابو ريشة(1910-1990 ) ،اعتاد على النظر انطلاقا من ذاته الرومانتيكية،وفي قصيدته(شاعر وشاعر) يرى ان الطبيعة هي التي تركت بالاهمية،لدى التطرق الى المؤثرات التي تركت بصمتها على المتنبي،على ان المتنبي لم يلتفت،بشكل عام الى الطبيعة في اشعاره وكان اهتمامه بها في اواخر حياتخ،دليلا على ان قواه اخذة بالتراجع،ومن ناحية اخرى،يصف عمر ابو ريشة المن الية السيكولوجية لدى المتنبي،بطريقة مطابقة لما اورده في قصيدته،التي حملت عنوان (نسر)،وهي قصيدة رومانتيكية ذاتية،ونحن نحتاج الى الرؤية الموضوعية،من اجل تلافي الواقع في مثل هذه الاخطاء،اذ ليس من المعقول ان نضفي ذاتنا على الذوات الاخرى،دون ان نكون قادرين على رؤيتها بمعزل عن ذاتنا،وهنا يبدو بوضوح ان الكاتب الموضوعي الواقعي،اقدر على رؤية الحقائق من الرومانتيكيين.
منقول..
*مجلة الجيل/العدد29-الاحد/12/شباط/2006