حوار حول الواقع الثقافى والمشهد النقدى المعاصر
حوار: فرج مجاهد عبدالوهاب
...............................................
س1 : أضواء على النشأة والتعلم، أهم من تأثرت بهم ، رسالة الماجستير ورسالة الدكتوراه ؟
فى ريف مصر الجميل ، وفى ظلال مشاهده النابضة بالحركة والقيم الكريمة .. كانت نشأتى الأولى .. فى قرية "الصياغ" ثم بعد ذلك بعد أن اتسعت واتحدت مع القرى المجاورة اتخذت اسما جديدا هو "منشأة العطارين" 0
وفى أسرة مصرية القسمات ، والعادات والتقاليد ، كثيرة العدد ، وتحت رعاية أب عطوف متسامح ، يفتح بيته وقلبه لأبناء القرية كلها ، يكرم الضيف، ويحفظ حق الجار ، ويشمل الأقارب بمودته ورعايته ؛ وهذه السمات والسجايا الأبوية ليست إطراء ولا ثناء … ولكنها حقيقة مشاهدة محسة، وكل هذا العطاء لم يكن ناشئا عن ثراء ووفرة فى العيش.. ولكنه كان فطرة فى الوالد الكريم رحمه الله .. ورحم كل من على شاكلته فى البر والعطف والمودة والتسامح 0
وأحمد الله أن الوالد تعهدنى .. ووهبنى "للقرآن" وللأزهر 0
ومن دلائل ذلك أنه اتفق مع أحد الشيوخ من حافظى القرآن الكريم وممن لهم مكانة وسمعة عطرة فى القرى المجاورة .. أن يحضر إلى بيتنا كل يومين لكى أقرأ عليه القرآن . ويصحح لى القراءة .. ثم أحفظ بعد ذلك ، وبعد أن حفظت سبعة أجزاء .. انتقلت إلى جمعية تحفيظ القرآن الكريم بديرب نجم "المركز" وأتممت حفظ القرآن الكريم فى سن العاشرة والنصف بعون الله وتوفيقه ، وكان الشيخ بصيرا أى مكفوف البصر وهو الشيخ متولى رحمه الله 0
ثم التحقت بالمعهد الدينى بالزقازيق عام 1959م وحصلت على الشهادة الثانوية عام 1968 وكانت الدراسة [أربع سنوات "إعدادى" وخمس سنوات "ثانوى"] وفى المعهد الدينى الثانوى .. تفتحت موهبتى الشعرية .. وحصلت على كأس التفوق فى الشعر على مستوى الجمهورية عام 1968م وأنا طالب فى "الخامسة الثانوية" 0
والتحقت بكلية اللغة العربية فى العام نفسه وفى السنة الأولى بالكلية عام 1968م / 1969م أصدرت ديوانى الأول "نبضات قلبين" بالاشتراك مع الزميل الراحل "عبدالعزيز عبدالدايم" وكتب مقدمة الديوان الناقد الفلسطينى الشاعر "د/ عزالدين المناصرة" وكتب أ.د/على الجندى بعض الأبيات تقريظا للديوان ، وكان وقتها عميدا لكلية دار العلوم 0
وفى الكلية اتسعت آفاق الرؤية، وتعرفت على النشاط الثقافى بالقاهرة.. وارتدت التجمعات الأدبية "مثل دار الأدباء" ورابطة الأدب الحديث وهيئة خريجى الجامعات وجمعية الشبان المسلمين ،وغيرها 0
وفزت فى السنة الأولى بجائزة الشعر الأولى على مستوى الجامعة بقصيدة كتبتها عن "سرحان بشارة" وهى مهداة إلى كل مناضل فلسطينى وعربى وإسلامى 0
وفى السنة الرابعة بالكلية فزت بجائزة الشعر الأولى ، وحجبت عنى الجائزة الثانية والثالثة، وشاركنى الفوز فى الشعر الصديق أ.د/محمود العزب ومن شعراء الجيل السابق فى جامعة الأزهر الشاعر د/ محمد أحمد العزب ،وأد/ سعد ظلام ،والشاعر/ محمد فهمى سند، والشاعر / محمد إبراهيم أبو سنة . ومن جيل الآباء .. والرواد .. أ.د/محمد رجب البيومى، وأ.د/ حسن جاد، وأ.د/ محمد عبدالمنعم خفاجى وأ0د/ عبدالسلام سرحان ، وأ0د/ محمد السعدى فرهود0
وهذه الكوكبة المتألقة من الأجيال والاتجاهات الشعرية .. كان لها الأثر الكبير فى تجربتى الشعرية والنقدية ؛ وقصائد أ.د/ محمد أحمد العزب التى كان ينشرها بمجلة الأزهر . ودواوينه التى توالت بعد ذلك كان لها أثر كبير فى التعرف على نبض التجربة الشعرية الحديثة، وكتابات أ.د/ محمد رجب البيومى الموسوعية ، ولمحاته النقدية الثقافية، وكتاباته فى "السير" وتاريخ رواد النهضة الإسلامية ، وتحديقه فى صحائف التاريخ .. كل هذه الآثار والشواهد توقفنا أمامها طويلا .. وأمدتنا برصيد غير مباشر من الفكر .. والانتماء .. والتمسك بالهوية 0
ومن الذين أثروا فى تجربتى الشعرية تأثيرا عميقا الشاعر الكبير "محمود حسن إسماعيل" وهذا التواصل الفنى معه كانت ثمرته أول كتاب نقدى لى وهو:محمود حسن إسماعيل بين الأصالة والمعاصرة 0
وأما الذين تأثرت بهم فى الاتجاه النقدى ـ فهم كثيرون وفى مقدمتهم د/محمد غنيمى هلال، ود/ محمد مندور ، ولكن التأثر الأكبر والأعمق كان بمنهج د/ عبده بدوى "التكاملى" ومنهج العلامة الشيخ / محمود شاكر المتفتح على كل المنجزات المعرفية الحديثة مع التمسك بالجذور الراسخة فى حقلنا الثقافى .. والحفاظ على هويتنا وآلياتنا فى استقبال جماليات النص واستكشاف أسرار التجربة 0
وكل الأساتذة الذين تتلمذت عليهم كان لهم فضل التوجيه .. والتشجيع ، والحرص على التجويد والتنقيح .. والتجديد وفى مقدمتهم أ.د/ عبداللطيف خليف ، وأ.د/محمد السعدى فرهود ، وأ.د/ عبدالعال أحمد عبدالعال ، أثاب الله الجميع ـ ورحم الراحلين وجزاهم خير الجزاء 0
وأما عن الماجستير والدكتوراه :
فقد كان شعر محمود حسن إسماعيل هو البحث المقدم فى مرحلة الماجستير عام 1974م ولم يكن رسالة مستقلة ـ وإنما كان مكملا لسنوات الدراسات العليا ؛ ولم يقبل البحث وقتها وذلك لأن الشاعر كان على قيد الحياة ، وكان هذا هو السبب الوحيد لرفض البحث 0
ثم تقدمت ببحث آخر عن شعر المهجر ، وحصلت على الماجستير عام 1976م وتابعت البحث فى الاتجاه نفسه .. وكان موضوع رسالة الدكتوراه "النزعة التأملية فى أدب المهجر" أى رصد التجربة التأملية فى فنون الأدب المهجرى كلها "فى الشعر والقصة والرواية والمسرح والمقالة "0
وحصلت على الدكتوراه مع مرتبة الشرف الأولى عام 1981 تحت إشراف أ.د/عبداللطيف خليف وطبع الكتاب بعد ذلك فى دار المعارف عام 1994 ، وطبع كتاب "محمود حسن إسماعيل بين الأصالة والمعاصرة" بدار المعارف قبل ذلك بعشر سنوات عام 1984م 0
س2 : ما هى شهادتكم على الواقع الثقافى الآن ؟
الواقع الثقافى الآن يموج بتيارات متعددة ومتصارعة .. وهذا التماوج يقضى على سكونية المشهد، ويدفع إلى أن يبحث أنصار كل تيار عن الأفضل والأجود .. ولا يبقى إلا المنجز الثقافى الأصيل الذى يحافظ على معالم الهوية المصرية والعربية والإسلامية فى عصر "العولمة" وأما التيارات السابحة مع الرياح أيا كان مصدرها أو توجهها فهى ستذهب مع الريح ـ ولن تترك ثمرة نافعة، ولا نجمة ساطعة 0
فأما الزبد فيذهب جفاء ، وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض . هذا عن الصورة العامة والرؤية الراصدة 0
أما عن التفصيل ـ فأقول : إن الواقع الثقافى الآن ـ معوق ، لأن هناك قصورا فى "العمل الثقافى" أو "المنتج الثقافى" فليست الثقافة هى الإبداع الأدبى فقط، أو الفن التشكيلى وغيره من الفنون الجميلة فقط ، وإنما الثقافة هى كل منجز فكرى وعلمى وفنى يشارك فى حضارة الأمة ، والعمل على قهر التخلف العلمى والصناعى والزراعى والسلوكى والحضارى 0
وما زلت أذكر كلمة لأحد الأدباء الكبار حين قال ساخرا من "قصور الثقافة ورسالتها القاصرة" حيث قال :
هى "قصور فى الثقافة، وليست قصورا للثقافة" إنها ثقافة "العجزة .. والبله .. وأصحاب الهوايات الخاصة الفردية 0
إن الواقع الثقافى فى حاجة إلى رياح التغيير والإصلاح .. والرؤية المتكاملة .. فلماذا لا تتكون فى قصور الثقافة "نواد للعلوم ، ولماذا لا يكون فى هذه القصور مواهب علمية مؤثرة مع المهتمين بالأدب .. والنشاط المسرحى .. والفن التشكيلى ، والسينما .. وكل الاهتمامات الترفيهية 0
ومن معالم تشوه الواقع الثقافى "سيطرة" الشللية على كثير من التجمعات ، وكل مجموعة تمثل جزيرة منعزلة ، وما نشهده فى "المجلس الأعلى للثقافة" لا يخفى على أحد، حيث تعطى بعض الجوائز ـ لمن لم يكن يحلم بها ـ ويستبعد كبار العلماء مثل د/حسين نصار ، بل ويقول أحد هؤلاء الفائزين عن طريق "التصويت" وتقبيل "الوجنات" بأن انتاج د/حسين نصار "ضعيف"؟؟!"0
هل هذا كلام تقبله الساحة الثقافية، ويصمت تجاهه العلماء ، وللواقع الثقافى بعض الملامح الإيجابية .. ومنها : "ظاهرة الجوائز العربية" التى يفوز فيها بنصيب كبير علماء مصر .. ومفكروها .. وأدباؤها.. ورجال الأعمال العرب هم أصحاب هذا المشروع الحضارى .. الرائد 0
وأين رجال الأعمال فى مصر ـ أين حق الوطن عليهم ؟؟ أين موقعهم الفكرى والثقافى ؟؟ أين دورهم فى تمويل مشروعات البحث العلمى ؟
إن بعضهم لم يكتف بالجهل المركب وعدم الوعى الحضارى ولكنه سطا على أقوات الشرفاء ، واقترض مدخرات البسطاء وهرب بها مثل قراصنة العصور الوسطى .. ثم عاد يحمل كذبة كبرى وصدقه العملاء ، وبدأ يمارس الفساد تحت قناع جديد هو "غسيل الأموال" !! ويا للعجب العجاب !!!!
س3 : من واقع تواجدكم فى اتحاد الكتاب : ما هى أهم السلبيات التى تحتاج لعلاج فورى ؟
إن كل عمل عام .. لابد أن تشوبه بعض السلبيات فمن يعمل لابد أن يخطئ 0
وأرى أن إيجابيات الاتحاد كثيرة .. ومتواصلة .. ولكن العين الناقدة لا ترى إلا الأخطاء .. والصحافة كان لها دور كبير فى تضخيم السلبيات وإشعال نار الخلافات، ولا أدرى الدوافع التى تكمن وراء ذلك التوجه السائد 0
وأرى أن أهم السلبيات التى تشوب العمل والنشاط فى اتحاد الكتاب "هى التعصب للرأى واصرار كل فريق أو عضو على رأيه ـ وعدم الاستجابة لرأى الأغلبية وهذا مصدر الخلاف 0
ومن السلبيات : أن اللجان تعمل مستقلة عن بعضها فليس هناك تناغم وتكامل بين لجان المجلس 0
ونشرة الاتحاد .. لا تكفى .. ولا تليق بمكانة مصر ـ فلابد من مجلة ثقافية ذات حضور كامل متواصل فى المشهد الثقافى العربى 0
وندوات الاتحاد ـ تكاد تموت بالسكتة القلبية ـ لأن الدعاية غير كافية ، ولأنها غير متواصلة ـ ويجب أن تكون للاتحاد ندوته الشهرية التى يحضرها ممثلون لفروع الاتحاد، ومندوبون عن الصحف والإذاعات والقنوات الفضائية وأن يكون لها موعد ثابت ، وبرنامج معروف ـ يناقش قضايا الساعة 0
وإلى الآن ـ ما زال اتحاد الكتاب المصرى ـ يبحث عن وجوده الحقيقى بين اتحادات الكتاب العرب ، وقد بذلت جهود مشكورة متواصلة فى هذا الاتجاه ، وقد حدثت اتفاقيات فى مؤتمر اتحاد الكتاب العرب بالجزائر .. من خلال مساعى وجهود الوفد المصرى ، وكذلك فى اجتماع اتحاد الكتاب العرب بالأردن فى عام 2004 تأكد هذا الاتفاق وهو عودة مقر اتحاد الكتاب العرب إلى القاهرة 0
ومن الإيجابيات التى أنجزها الاتحاد .. إنشاء فروع نشطة فى محافظات مصر ـ خمسة فروع وآخرها فرع الاتحاد بالشرقية وكذلك الجوائز السنوية للاتحاد لها أثر كبير فى الواقع الثقافى 0
س4 : كيف توازن بين صابر عبدالدايم : الشاعر والنقابى والناقد والأستاذ الجامعى:
الموازنة يمكن أن تكون بين متماثلين أو متباينين ـ وأرى أن هذه المحاور الأربعة تمثل زوايا ـ لتكامل التكوين ـ لأنها كلها تنبع من مصدر واحد وهو ـ الإبداع ـ رؤية وتنظيرا ومشاركة متواصلة فى حركة الحياة الأدبية والثقافية بوجه عام 0
ولذلك لا أجد تناقضا ـ وصراعا ـ بين هذه التخوم لأنها كما قلت تنطلق فى فضاء الإبداع 0
ولذلك أجدنى مغتبطا بمشاركاتى فى رسم سياسة الاتحاد ، والعمل على تجميع كلمة الأدباء والكتاب ، ومواصلة الطريق الشاق مع الزملاء المخلصين لتبقى الكلمة المبدعة هى منارة الوصول ، وهى النبض الحقيقى لمستقبل هذه الأمة 0
وأرى أن الطريق إلى توسيع القاعدة الثقافية للاتحاد أن لا تقتصر العضوية على "الأدباء" والنقاد وكتاب التراجم والسير ، بل لابد من إدراج كتاب المقالة السياسية، والمقالة الاجتماعية ، والمقالة الدينية ، والمقالة العلمية ، وقبول كل صاحب فكر مستنير مؤثر .. واتحاد الكتاب يمكن أن يضم الآلاف من النخب الثقافية المؤثرة ، وفى مقدمتهم أساتذة الجامعات المتخصصون فى علوم اللغة العربية وآدابها ، وكذلك العلوم الإنسانية بكل تياراتها 0
وقد حاولت وما زلت أحاول ـ أن يتواصل التعاون والنشاط الثقافى بين الاتحاد والجامعات المصرية ، وأقمت عدة ندوات فى كلية اللغة العربية بالزقازيق،شارك فيها أعضاء من مجلس ادارة الاتحاد .. فالجامعة لابد أن تتعرف على مناحى الأنشطة التى يقوم بها الاتحاد ، وفروع الاتحاد بالمحافظات ـ لها فى هذا الاتجاه أنشطة وفاعليات بارزة 0
س5 : ما أهم أسباب أزمة النقد الحالية ، والحلول التى تراها ؟
إن أزمة النقد الحالية متوارثة .. وهى ظاهرة تتكرر فى كل جيل ـ وذلك لأن الأعمال الإبداعية تتوالى ـ ومدها لا ينحسر وخاصة فى السنوات العشر الأخيرة . حيث انتشرت مكاتب الكمبيوتر ، ويمكن طبع أى عدد طباعة فاخرة بأقل تكلفة وأصبح النقاد محاصرين بهذا الطوفان الإبداعى الذى يحتاج إلى غربلة .. وإلى مكاشفة ، وإلى مواجهة ، ولكن المبدعين يريدون "النقد التبريرى أو الانطباعى" الذى يضع على العمل الإبداعى تاجا من اللؤلؤ ، ويضعه فى صدارة الإبداع والتجريب ، ومع قناعتى بضرورة تشجيع الأعمال الجديدة فإننى أقول إن النقد الذى يضئ آفاق العمل..ويكتشف مناطق الداء والضعف فيه ، ويشخص ذلك تشخيصا محايدا وعلميا منصفا هذا يدفع بالأديب إلى اكتشاف الطريق الصحيح ، والتجارب الجديدة 0
ومن أسباب أزمة النقد ، ضيق المساحة المتاحة للنقاد والمبدعين فى منافذ الإعلام المسموعة والمرئية، فالبرامج الموجودة مخنوقة الأنفاس ، لا يصل صوتها إلى الناس ؛ فزمنها لاهث محاصر ـ بالبرامج الترفيهية ـ والتجارية 0
فماذا تقدم قنواتنا المحلية، والقنوات الفضائية من برامج ثقافية وندوات ؟؟ وما مكانة الإبداع الجميل الجيد بين أعاصير الأغانى السفيهة، ورياح مشاهد العرى، وإفساد أذواق الشباب وتشويه هويتهم ، والقضاء على روح الانتماء لديهم 0
ومن أسباب أزمة النقد ـ أن فريقا من النقاد ـ الذين لهم صوت إعلامى بارز ـ يترجمون النظريات الوافدة .. ويلوون أعناق النصوص ، ويهشمون عظامها لكى يطبقوا عليها مقاييس النقد المستحدثة الوافدة التى تتوالى يوما بعد يوم ولا تستقر بل يلغى الأحدث الحديث، وبعضها يكون مجرد رأى فردى 0
والجهود الكبرى تتواصل الآن ـ لإيجاد نظرية نقدية عربية تستفيد من الجهود والنظريات الجديدة ، ولكنها تنطلق من ملامح وطبيعة البيئة والشخصية والثقافة ـ والهموم التى تجمع أمتنا العربية فى كيان متكامل كالبنيان المرصوص تاريخا ، ولغة وطقوسا، وفضاءات، ومجابهات وحوارات مع الآخر وضد الآخر 0
س6 : يرى بعض النقاد أن هذا زمن الرواية بعد أن تراجع الشعر فما رأيك ؟
هذا رأى صائب وواقعى ـ لأن الرواية فى هذا العصر ـ تعددت قنوات توصيلها للناس، فالدراما التليفزيونية ، والمسلسلات .. فى كل القنوات تواجهنا وتدخل ملايين البيوت يوميا ـ ولذلك أرى أن الرواية المكتوبة ليس هذا زمنها ، ولكن الرواية المشاهدة فى السينما والتلفزيون ، والمسموعة فى الإذاعة ـ هى التى قهرت القصيدة وجعلت الشعراء يتراجعون إلى الصفوف الخلفية فى مسارح التلقين 0
ومن مسببات مأساة الشعر وأزمته ما يلجأ إليه بعض الشعراء من غموض وتكلف ، ومن اقتحام للمحرمات وجرأة على المقدسات ، وتقليد لثقافة العرى ، ومشاهد "الفيديو كليب"0
ومن أسباب أزمة الشعر .. وازدهار فن الرواية .. انتشار ظاهرة كتاب "الأغانى" التافهة .. السوقية المبتذلة التى تلحن وتغنى وتوزع بالملايين ـ ويصبح هذا المؤلف الذى لا يجيد التحدث بالفصحى، ولا يعرف حقيقة التجربة الشعرية "الفصحى أو العامية" ولا يعرف حتى فن الزجل هذا المؤلف الخالى الذهن ـ والمسطح الفكر ـ يصبح هو هو الشاعر فى نظر "العامة" ويحفظ كلامه ملايين الناس 0
فهل يستيقظ الشعراء الحقيقيون من أوهامهم ومن غفوتهم، وهل تستيقظ لجنة النصوص ولجنة الرقابة بالإذاعة والتلفزيون ـ لكى تتابع ـ وتحد من أسراب النمل التى ملأت بيوتنا وغزت أنفاسنا، وسكنت أسماعنا ـ فى هيئة كلمات كسيحة ، وأنغام قبيحة، ومشاهد أقرب إلى الدعارة منها إلى الفن ؟!!
كل هذه التراكمات السرطانية .. أوقفت المد الشعرى الحقيقى وصرفت الناس عن الشعر والشعراء وخلا الميدان لفن الرواية لأنها كتابها لم يبتذلوا أنفسهم، ولم يسمحوا للمدعين، والمرائين ، والكذابين، والمهرجين أن ينزلوا إلى ساحتهم ـ وإلا فساء صباح المنذرين 0
س7 : ما هو مدخلكم لقراءة النص الأدبى "قصة أو قصيدة" :
إن قراءة النص من داخله ، واستكشاف أسراره من خلال التجول فيه أولا ـ والتعرف على معالمه وأبعاده وفك شفراته ، والوصول إلى رموزه هو المدخل الفنى الصحيح الذى أصحبه وأنا أحاور العمل الأدبى "شعرا كان أو قصة " 0
والنص يبوح باسراره ؛ والمنهج التكاملى هو أقرب المناهج إلى تجربتى النقدية .. ومن آليات هذا المنهج أن الفنون تتعانق وتتداخل ، وأدوات كل فن تشارك فى تشكيل التجربة فى الفنون الأخرى ، فالفنون القولية لا يمكن أن نتعرف على أسرارها ونحن بمنأى عن "الفنون الجميلة البصرية والسمعية والتشكيلية" 0
وبعض النصوص الإبداعية تقرض آليات منهج معين ويكون هو المدخل لاكتشاف عوالمها مثل "المنهج النفسى أو الاجتماعى أو التاريخى أو الفنى أو الأسلوبى، ولكن المنهج التكاملى هو أقرب المناهج إلى تعاملى مع النصوص ، وقد قمت بإبراز آليات هذا المنهج فى عدة كتب لى ومنها "شعراء وتجارب" ، "نحو منهج تكاملى فى النقد التطبيقى" و"التجربة الإبداعية فى ضوء النقد الحديث " وكتاب "القصة القصيرة دراسة ومختارات" وكتاب "آفاق الرؤية الشعرية دراسات وقضايا" 0
س8 : لماذا تراجع المسرح الشعرى فى عصرنا ؟؟
المسرح الشعرى ـ لم يتراجع ـ لأن كثيرا من الشعراء ما زالوا يكتبون المسرح الشعرى ـ فى مصر وفى العالم العربى ـ وفى مصر الشعراء محمد إبراهيم أبوسنة، وأحمد سويلم ، وفاروق جويدة ومهدى بندق ، وحسين على محمد، والشاعر الراحل د/أنس داود ومحمد سعد بيومى ، وغيرهم من شعراء مصر فى القاهرة والإسكندرية وفى كل المحافظات 0
ولكن الأزمة ترجع إلى المسؤولين عن "المسرح القومى" و"المسارح الخاصة"ومسارح الثقافة الجماهيرية ، ومسارح الجامعات 0
ومسرح التلفزيون، كل هذه الهيئات ـ لا توجه اهتمامها للمسرح الشعرى ، ولا تشجع الشعراء ، ولكنها تشجع المسرح التجارى الذى يميل إلى الإضحاك ـ والتسلية الوقتية وحجتهم أن "الجمهور يطلب ذلك" !! ولكن هذه حجة باطلة لأن الجماهير واعية .. وهى قادرة على التكيف مع الفن الراقى الذى يعرض عليها،والدليل على ذلك أن مسرح صلاح عبدالصبور ذاع وانتشر ومأساة الحلاج شاهد على ذلك 0
ومسرح الشرقاوى أثر فى الجماهير المثقفة، وجماهير الشعب ولا زلنا نذكر بالإعجاب الحسين ثائرا ، والحسن شهيدا ، والفتى مهران 0
وخروجا من هذا المأزق أرى أن تسترجع هيئة المسرح ذاكرتها القومية وأن تبحث عن النصوص المسرحية الجيدة وأن تتبنى خطة قومية مسرحية لإعادة الوعى الحضارى إلى المشاهد المصرى من جديد ، ويمكن الإعلان عن مسابقات فى المسرح الشعرى ، وإعادة تمثيل المسرح الشعرى للشاعر / عزيز أباظة وأحمد شوقى ، وعبدالرحمن الشرقاوى وصلاح عبدالصبور والشاعر السورى / عدنان مردم ، وقد أعد عنه الشاعر الدكتور / حسين على محمد رسالة أكاديمية عنوانها :
" عدنان مردم بك : شاعرا مسرحيا " ، وكان موضوعه فى الدكتوراه "البطل فى المسرح الشعرى المعاصر" 0
والحقل الجامعى يهتم كثيرا بالدراسات المسرحية ، ولكن الواقع العملى على المسارح العامة والخاصة ـ ما زال فى سبات لاهيا وغافلا عن الإنجازات الرائعة فى "المسرح الشعرى المعاصر" 0
والشاعر الدكتور / أسامة أبوطالب ـ والناقد الدكتور / جابر عصفور ووزير الثقافة، ووزير الإعلام ـ قادرون على النهوض من جديد بحركة المسرح "الشعرى"، إذا أقاموا الجسور الثقافية مع شعراء مصر فى جميع المواقع، وجميع المحافظات ، والثقافة الجماهيرية يمكن أن تمسك بيدها شعلة البداية من جديد 0
س9 : ما هو مفهومكم للأدب الإسلامى ودوره فى الأدب والحياة ؟
الأدب الإسلامى ـ ليس مسورا بحدود المكان ، ولا مؤقتا بأطر الزمان، ولكنه أدب شمولى الرؤية ، يتوجه بخطابه الإبداعى إلى الوجدان "المسلم" فى كل أنحاء المعمورة ، فهو أدب عالمى النزعة والتصور والرؤى ، والتشكيل 0
ولكنه منطلق من آفاق التصور الإسلامى التى لا تتصادم مع الفطرة الإنسانية الصافية وهى : "الربانية ـ الثبات ـ التوازن ـ الشمولية ـ الإيجابية ـ الواقعية ـ التوحيد " وهذه الأسس تمثل منابع وجدانية لكل تجربة أدبية مهما تنوعت طرائقها وتعددت أشكالها والأدب الإسلامى لا يقف ضد أى تجربة تعبيرية أو أى شكل تجريبى مستحدث فى الفنون الأدبية كلها بحيث لا يكون هناك تصادم مع موقف الإسلام من الكون والإنسان والحياة والطبيعة0
فالأدب الإسلامى تنطلق تجاربه فى الفنون الأدبية كلها من نبع الأيمان الفياض والتسليم المطلق بخالق الكون جل وعلا ، وتمتزج هذه الانطلاقة الإيمانية بالتأمل فى مشاهد الكون ، والنظر الثاقب فى ملكوت السماوات والأرض ، واستجلاء معالم القدرة الإلهية فى صنعة هذا الكون البديع المتناسق ، والأدب الإسلامى فى غمرة هذه التجارب التأملية لا يكون بمعزل عن واقع الحياة ، ومشاغل الإنسان، وقلقه وصراعه ومقاومته ، فهو يستجلى أسرار الحياة ويشخصها ، ويبحث عن مناقد الخلاص للإنسان فى أى مكان عبر رؤية إسلامية حضارية تواجه الآخر بالحوار والحكمة .. والكلمة الفنية الجمالية التى تصاغ معالمها فى قوالب فنية متجددة 0
س10 : من خلال تواجدكم فى دول الخليج العربى/ السعودية ، ما أهم ما لفت نظركم فى الأدب السعودى ؟
لقد تعايشت مع الأدب السعودى .. قراءة ، ونقدا ـ وقبولا ورفضا .. من موقعى بالعمل بجامعة أم القرى بمكة وبجامعة الإمام بالرياض ومن خلال حضور مهرجان "الجنادرية" أكثر من مرة والمشاركة فى الندوات والمحاضرات بالنوادى الأدبية المنتشرة بالمملكة ـ وأهم الظواهر الملفتة للنظر والجديرة بالنقد 0
أولا : الاهتمام الزائد بالنتاج الأدبى فى الجرائد والمجلات السعودية ـ فكل جريدة لها ملحق أدبى أسبوعى ـ متعدد الصفحات وملحق الأربعاء التابع لجريدة المدينة عدد صفحاته "أربعون صفحة" 0
ثانيا : النشاط الفعال والمؤثر للنوادى الأدبية الثقافية والتركيز على الجانب الأدبى فى كل الفنون الأدبية ، والندوات تقام أسبوعيا 0
ثالثا : الصراع والتنافس بين أنصار الحداثة ، وأنصار التراث .. وهذا الصراع أثمر جهودا نقدية ـ وتجارب إبداعية هائلة ـ وكل فريق يدافع عن رؤيته، ويقدم الشواهد على صواب منهجه 0
رابعا : الارتباط بالنبض الثقافى المصرى ، ومحاولة تجاوزه والادعاء أحيانا من قبل أنصار الحداثة أنهم سبقوا مصر فى التحديث وتفوقوا عليها ، ولكن ظل هذا الادعاء أملا ، وحلما يراود الكثيرين .. والمشهد الثقافى العربى لم يزل مشدودا إلى مصر ؛ وكل أديب مصري يرحب بأي موهبة وأي صوت أدبى له حضوره وتميزه على الساحة العربية0
خامسا : ظاهرة الجوائز التى يقوم بها رجال الأعمال العرب وفى مقدمتهم : السعوديون، ومنهم د/ عبدالله باشراحيل، ود/ محمد زكى اليمانى ، وفى الكويت عبدالعزيز سعود البابطين ، وفى الإمارات سلطان العويس ، وغيرهم ، هذه الظاهرة يفتقدها الواقع الثقافى والأدبى فى مصر ، فلم تزل جوائز الدولة هى الشمعة المضيئة فى قلب الفضاء الثقافى المليء بالغبار والعمالة والسمسرة والقروض والهروب ، وما زال رجال الأعمال عندنا متعلقين بسراب السباحة فى غابات الساحل الشمالى، وصناديق الليل فى الغردقة، ومشاهد العرى فى شرم الشيخ ودهب ، أما الاستثمار فى البحث العلمي ، والتفوق الأدبى والإنجاز الفكرى ـ فهو بمنأى عن خططهم ووعيهم، وهل تنتبه وزارة الاستثمار لهذا المنحى الحضارى المستقبلى ؟ وهل تفتح وزارة الثقافة أبوابها لمثل هذا التوجه الحضارى فى إثراء الثقافة والفكر والعلم ؟