نظرات مشتاقة، كانت تبحث بين الوجوه عن ملامح حبيبة، وصوت متعب يسأل بتردد وخجل عن سبب الغياب.
وعلى مضض، حاول أن يقنع نفسه أنها ستأتي يوما لزيارته.
سيطول مكوثه بالمستشفى، وعليه أن يتحمل ويصبر على مشاق البعد، ويتكبد شوقه وحنينه.
كم تمنى أن تكون أول المستقبلين له، عندما يعود من غرفة العناية المركزة، لكن أمله خاب الآن.
الوجوه تبحث عن سر حزنه وصمته وشروده، ذاكرته تلح عليه بصور شتى ووجوه وكلمات أسى وضجيج سيارة الإسعاف .مالذي حدث ؟ عاودته نوبة الصرع فجأة، بعد أن أحس أنه شفي تماما.
الطبيب أخبره أن هناك صلة بين نوبة الصرع هذه وأزمة نفسية، وكم ألحت أمه المسكينة على أن يخبرها مابه .
شيء ما تغير في نظراته، اختفى مرحه فجأة ؟ كانت رقيقة كنسمات الفجر الباسم، عبرت بعذوبة الى أعماقه، التزم الصمت، فليس من عادته أن يتحدث عمّا يعتمل بداخله، لكن بريقا خافتا كان يومض في عينيها، تبدو مثقلة بهم، ما يود بصدق لو استطاع أن يعيد الفرح الطفولي إلى محياها، كما عهدها مرحة خفيفة الروح باسمة .
مي يابهجة عمري، من لي بسعادة الكون أمنحها إياك . تقترب، فتضفي ألوانا شتى، تغير مجرى حياته بضحكتها البريئة وصوتها العذب، عيناها بحر عميق لم يستطع الابحار فيه بأمان، وفيه سر ما لم يدرك كنهه بعد.
تبادر إلى ذهنه أنها شابة يافعة، ربما ألم بها ما يعاني منه في صمت . لكن ألا من مبادرة، تقطع حبل الشك باليقين ؟؟
تجمعت حبات العرق على جبينه، وهو يتابع خطواتها، تركض نحوه بمرح عجيب . سيخبرها الآن، كانت أشجع منه، فبادرته قائلة :
أخيرا، وجدت مرسى لأحلامي .
ابتسم بسعادة : الحمد لله، كم يسعدني أن نكون معا هناك. احمرت وجنتاها خجلا ، فتابع :
أتدرين يامي منذ متى وأنا أخفي عن الجميلة ما نقش بأعماقي ؟ حروف آسرة ورائعة شدتني وجذبتني وعلمتني معنى الحب السامي النقي . تمتمت : إذاً أخبرها ولا تتردد . تنهد بعمق قائلا :
كنت غبيا، ظننت أنه يكفي أن أشعر بأجمل المشاعر والأحاسيس، وعليها هي أن تلتقطها بحسها المرهف، وروحها العذبة الشفافة .
ابتسمت مرددة :
أمور كهذه تحتاج الى الوضوح والمباشرة .
تأملها للحظات ثم قال :
أظنها تعرف أنني أكنّ لها محبة خاصة، وأقدرها وأحترمها، وأرجو أن يجعلها الله رفيقتي في الدنيا والآخرة .
تلعثمت مي، وهمّت أن تقول شيئا، لكنها لاذت بالصمت .أحس أن عليه أن يكون حاسما، فبادرها قائلا :
مي،هل تدركين أني أحبك ومن زمن بعيد ؟ ذات البريق لمع في نظراتها، وشردت للحظات . كانت تعاني من شيء لم يعرف ماهو ، وطال شرودها، وخواطر عدة تتزاحم، تقربه من شاطئ الأحلام، ثم تقذفه إلى أمواج عاتية تأخذه إلى أعماق بعيدة لا يستطيع منها فكاكا . وكمن يتعلق بقشة كي تنقذه من الغرق، تمتم قائلا :
مي، صمتك هذا يخيفني، ؟ هل هناك أحدٌ آخرُ بحياتك؟
لم يدر كم من الوقت مضى قبل أن تحرك رأسها إيجابا. حزن غريب غمر كيانه، وكم تمنى لو استطاع أن يبكي، لكنه تمالك نفسه وابتسم مرددا :
أرجو لك كل التوفيق مع من اختاره قلبك. في لحظة ما، ظن أنه نجا من براثن الأسى، غير أنه كان يقتات على بقايا صبر.
حاول جاهدا أن يبتعد عن كل شيء يذكره بها، لكنها كانت تعيش بداخله، وشيئا فشيئا، طفا على السطح ألم موجع، فشل في كتمانه.
مازال يرنو إلى النافذة، يأمل أن يرى محياها الباسم . يرهف السمع لخطوات الزوار، لعل أذنه تلتقط وقع خطواتها المرحة.
ستعود يوما كي تؤكد له أنه كان مجرد كابوس وانتهى .
يلثم الورد الندي، فتتغلغل ذات العذوبة إلى سويداء قلبه، ثم تبدأ الصور بالتتابع، ويتوقف عند أمس قريب وفرح لم يكتمل .