مناقشة نقاد قصيدة النثر:
أثار مصطلح قصيدة النثر منذ مولده أو بالأحرى اجتلابه إلى البيئة العربية العديد من النقد أبرزه ملاحظة التناقض بين طرفي المصطلح ، ويرى الدكتور عبد القادر أن هذا المصطلح يثير مفارقة واضحة بين طرفي القصيدة والنثر فيقول : " وقد أثارت المفارقة الواضحة بين طرفي المصطلح " القصيدة والنثر " - وما زالت تثير- كثيرا من الجدل ".(57)
وأرى أن على النقد تخطي ذلك الجدل ؛ لأن هذا اصطلاح، ولا مُشاحَّة في الاصطلاح كما علمنا علماؤنا الأوائل.
كما يجب ألا ننسى أن الشعر الحر أيضا قام على مصطلح غير دقيق ، ولم ينته الشعر الحر بسبب ذلك.
وقد نشأت مصطلحات أخرى مهدت في العربية لهذا النوع مثل :
"الشعر المنثور الذي يعرفه أمين الريحاني قائلا: : " يدعى هذا النوع من الشعر الجديد.
بالإفرنسية Vers Libres وبالإنكليزية Free Verse - أي الشعر الحر الطليق- وهو آخر ما اتصل إليه الارتقاء الشعري عند الإفرنج وبالأخص عند الإنكليز والأميركيين. فشكسبير أطلق الشعر الإنكليزي من قيود القافية. وولت وتمن Walt Waiman الأميركي أطلقه من قيود العروض كالأوزان الاصطلاحية والأبحر العرفية. على أن لهذا الشعر الطليق وزنا جديدا مخصوصا وقد تجيء القصيدة فيه من أبحر عديدة متنوعة..(61)
لاحظ أنه يتحدث عنه بصيغة الحديث عن آخر صيحة!
ولتوفيق الحكيم تجربة يعبر عنها قائل:"ولقد أغراني هذا الفن الجديد في السنوات العشرين من هذا القرن وأنا في باريس بالشروع في المحاولة فكتبت بضع قصائد شعرية نثرية من هذا النوع ، وهو لا يتقيد بنظم ولا بقالب معروف".(62)
أما حسين عفيف فقد عرفه بأنه :
"يجري وفق قوالب عفوية يصبها ويستنفدها أولا بأول, لا يتوخى موسيقى الوزن ولكنه يستمد نغمته من ذات نفسه. لا يشرح ومع ذلك يوحي عبر ايجازه بمعان لم يقلها, ليس كشعر القصيد ولا كنثر المقال ولكنه أسلوب ثالث".
وفي تعريف آخر له يقول :" الشعر المنثور يتحرر من الأوزان الموضوعة ولكن لا, ليجنح الى الفوضى, وانما ليسير وفق أوزان مختلفة يضعها الشاعر عفو الساعة ومن نسجه وحده, أوزان تتلاحق في خاطره ولكن لا تطرد, غير أنها برغم تباين وحداتها, تتساوق في مجموعها وتؤلف من نفسها في النهاية هارمونيا واحدة, تلك التي تكون مسيطرة عليه أثناء الكتابة.(63)
لكن أنسي الحاج يفرق بين المصطلحين فيقول:" لكن هذا لا يعني أن الشعر المنثور والنثر الشعري هما قصيدة نثر، إلا أنهما- والنثر الشعري الموقع على وجه الحصر- عنصر أولي في ما يسمى قصيدة النثر الغنائية. ففي هذه لا غنى عن النثر الموقع.(64)
أما البداية الفعلية فترجع إلى جماعة مجلة شعر التي تأسست في بيروت 1957م بريادة كل من يوسف الخال ، وخليل حاوي، ونذير العظمة، وأدونيس ، ثم انضم إليها : شوقي أبو شقرا وأنسي الحاج ، ودعمها من خارجها جبرا إبراهيم جبرا و سلمى الجيوسي (65) ويصرح أنسي الحاج بأنه :
" صاحب أول وثيقة في قصيدة النثر المكتوبة بالعربية ديوان (لن) هو الكتاب الأول المعرف نفسه بقصيدة النثر والمكتوب بهذه الصفة تحديدا.. والمتبني لهذا النوع تبنيا مطلقا.(66)
فماذا قال في مقدمته التاريخية تلك ؟
قال: " هل يمكن أن نخرج من النثر قصيدة؟ أجل، فالنظم ليس هو الفرق الحقيقي بين النثر والشعر. لقد قدمت جميع التراثات الحية شعرا عظيما في النثر، ولا تزال. وما دام الشعر لا يعرف بالوزن والقافية، فليس ما يمنع أن يتألف من النثر شعر، ومن شعر النثر قصيدة نثر".(67)
تعريف قصيدة النثر:
أوردت الموسوعة العربية العالمية تعريفا منصفا لها ، يتضمن أغلب مقولات أنصارها ، حيث عرفتها بأنها:
" جنس فني يستكشف ما في لغة النثر من قيم شعرية ، ويستغلها لخلق مناخ يعبر عن تجربة ومعاناة، من خلال صور شعرية عريضة تتوافر فيها الشفافية والكثافة في آن واحد ، وتعوض انعدام الوزن التقليدي فيها بإيقاعات التوازن والاختلاف والتماثل والتناظر معتمدة على الجملة وتموجاتها الصوتية بموسيقا صياغية تحسُّ ولا تُقاس".(68)
موقف من التراث:
وبينما كان رواد (الشعر الحر(التفعيلة) معنيين بصلتهم الوثقى بالتراث الشعري والعروضي العربي فإن من رواد قصيدة النثر من لم يهتم بهذه الصلة ، بل إن منهم من صرح بالاغتراب عن هذا التراث العربي يقول أنسي الحاج:
"أشعر بالغربة في المقروء العربي... قراءة العربية تصيبني بملل لاحد له، وما أبحث عنه أجده في اللغة الفرنسية؛ لأن الفرنسية هي لغة (الانتهاك) بينما العربية لغة (مقدسات) ".(69)
وهذا تعميم غير علمي وشبهة مردودة فاللغة -أية لغة- قادرة على أن تعبر عن المقدس وغيرالمقدس .
ومنهم من عد الاهتمام بالبحث عن جذور أو أصل في التراث خللا كالشاعر قاسم حداد؛ إذ يقول " ثمة خلل في الصدور عن إحساس بضرورة تأصيل كل ظاهرة فنية لمرجعية محددة ، كأن تكون الكتابة ، خارج الوزن ، معطى منسوخا عن تجربة - قصيدة النثر الغربية ، أو أن يكون لهذه الكتابة أسلاف في التراث العربي ". (70)
وفي المقابل حاول نفر منهم تعويض النشأة الأجنبية لقصيدة النثر اصطلاحا وتعريفا وشروطا قائمة كلها على نماذج من الأدب الفرنسي، فلجؤوا إلى التراث العربي القريب ناسبين قصيدة النثر إلى جبران ومصطفى صادق الرافعي، والبعيد مفتشين عن نماذج لابن حزم ، أبي حيان الأندلسي، وابن عربي.
أما على مستوى التنظير فلجؤوا إلى بعض النصوص التراثية للاستئناس بها لقواعد سوزان برنار ، مثل النص الذي أورده عبد القاهر: "حين رجع عبد الرحمن بن حسّان إلى أبيه حسَّان وهو صبيّ، يبكي ويقول لَسَعَني طائر، فقال حسان: صِفْهُ يا بُنيَّ، فقال: كأنه مُلْتَفٌّ في بُرْدَىْ حِبرَة، وكان لسعَهُ زُنْبُور، فقال حسّان قال ابنِي الشِّعر وربِّ الكعبة ، أفلا تراه جَعل هذا التشبيه مما يُستدَلُّ به على مقدار قُوّة الطبعِ، ويُجْعَل عِياراً في الفَرْق بين الذهن المستعدّ للشعر وغير المستعدّ له".(71)
وليس في نص الجرجاني دليل على أن الشعر يكون بغير وزن؛ لأن تسمية حسان ما قاله ابنه شعرًا تسمية مجازية توحي بقوة استعداد ابنه للشعر فيما بعد كما هو واضح من تعليق عبد القاهر.
ومنهم من تمسك بقول الفارابي إن "القول الشعري قد يكون غير موزون ". ولم ينتبهوا أن القول الشعري للفارابي مختلف عن الشعر فالمقصود به الحجة الشعرية في اصطلاح الفلاسفة.(72)
موقف من الموسيقا:
يعبر أدونيس عن موقف رواد قصيدة النثر من الموسيقا قائلا:
" الوزن/ القافية ظاهرة إيقاعية- تشكيلية ليست خاصة بالشعر العربي وحده وإنما هي ظاهرة عامة، في الشعر الذي كتب ويكتب بلغات أخرى، لكن على تنويم وتمايز. الزعم إذن، بان هذه الظاهرة خصوصية نوعية لا تقوم اللغة الشعرية العربية إلا بها، ولا تقوم إلا بدءا منها واستنادا إليها، إنما هو زعم واهٍ جدا وباطل".(73)
يبدأ أدونيس بمقدمة سليمة ، هي أن الوزن والقافية ظاهر إيقاعية ليست خاصة بالشعر العربي وحده ، وهذا صحيح وقد بينه الزمخشري من قبل ، لكنه يقفز إلى نتيجة خاطئة هي رفض ألا تقوم اللغة الشعرية إلا بها.
فهل وجود الوزن والقافية في شعر لغات أخرى ، ينفي أن يكونا عنصرين من عناصر بناء الشعر العربي.
وكذلك فإن عدم وجودهما في شعر لغة من اللغات " ليس مما يسلب الشعر كله من موسيقاه"(74) كما يقول الدكتور أنيس.
بدائل الموسيقا:
بعد أن اتفق أصحاب هذا الاتجاه إهدار عنصر الموسيقا راحوا يبحثون عن بدائل للتعويض فتوصلوا إلى عمود لقصيدة النثر مستقى من تنظير برنار ، قائم على شروط ثلاثة بدون أحدها يستحيل الحديث عن قصيدة نثر، وكل شرط من هذه الشروط يستدعي ملازما له على هذا النحو:
1- الإيجاز : الكثافة .
2- التوهج : الإشراق .
3- المجانية : اللازمنية.
مبدأ تعويض الموسيقا الغائبة:
وقد أشار أنسي الحاج إلى هذا القانون فقال عن قصيدة النثر إنها :" تستعيض عن التوقيع بالكيان الواحد المغلق، الرؤيا التي تحمل أو عمق التجربة الفذة، أي بالإشعاع الذي يرسل من جوانب الدائرة أو المربع الذي تستوي القصيدة ضمنه، لا من كل جملة على حدة وكل عبارة على حدة أو من التقاء الكلمات الحلوة الساطعة ببعضها البعض الآخر فقط" . (75)
وهو يشير هنا إلى مبدأ الاستعاضة او التعويض الذي نقله عن سوزان وتلقاه نقاد قصيدة النثر.
وقد بلور الدكتور صلاح فضل هذا القانون فقال " إن قصيدة النثر تعتمد الجمع بين الإجراءات المتناقضة ؟ أي إنها تعتمد أساسا على فكرة التضاد، وتقوم على قانون التعويض الشعري".(76)
وأنا أرى أن قانون التعويض هذا ملازم لقصيدة النثر وأصحابها في أكثر من مستوى بدءًا من المصطلح (قصيدة ) ومرورا بكتابة كلمة شعر على نصوصهم ودواوينهم ، وإلحاح بعضهم، لا سيما الماغوط ،على الإكثار من مفردات " شعر وقصيدة" في نصوصهم.
والذي يعنيني هنا مبدأ التعويض عن عنصر الموسيقا، وأرى أنه قائم على مفارقة عجيبة .
فالتعويض إنما يكون عما يفقده الإنسان لا بإرادة منه ، فحينئذ يلجأ إلى تعويض ما خسره ، أما في حالة قصيدة النثر فإن إهدار الموسيقا متعمد فما معنى التعويض؟
إن الموسيقا في الشعر إما أن تكون مهمة ، فلا تستحق الإهدار، أو غير مهمة ، فلا تحتاج إلى تعويض.
فهل من المعقول المقبول أن يفقأ إنسان عينيه ثم يقول : سأعوض عن حاسة البصر بتنشيط حواسي الأُخَر؟!
لكنهم انطلاقا من شعورهم بالحاجة إلى تعويض للموسيقا الغائبة ، راحوا يبحثون، حتى توصلوا إلى تبني البدائل التالية:
أولا: بديل كمال أبو ديب: "الفجوة: مسافة التوتر":
أما كمال أبو ديب فيعترض على اتخاذ الإيقاع عوضا عن الموسيقا في قصيدة النثر فلديه:
"لا يكون ثمة من كبير جدوى في تحديد الشعرية على أساس الظاهرة المفردة كالوزن أو القافية أو الإيقاع الداخلي أو الصورة أو الرؤيا أو الانفعال ".(77)
ولذلك يقترح مفهوما جديدا يسميه:"الفجوة أو مسافة التوتر وهو مفهوم:" لا تقتصر فاعليته على الشعرية بل إنه لأساسي في التجربة الإنسانية بأكملها بيد أنه خصيصة مميزة".
بيد أن ما يميز الشعر هو أن هذه الفجوة تجد تجسدها الطاغي فيه في بنية النص اللغوية بالدرجة الأولى وتكون المميز الرئيسي لهذه البنية". ويحاول أن يطبق هذا المفهوم الذي (لا يقتصر على الشعرية بيد أنه خصيصة مميزة )على نص"فارس الكلمات الغريبة" لأدونيس" ، حيث:"تبرز مسافة التوتر في العبارة الواحدة منذ اللحظة الأولى للنص:
"يُقْبلُ أعزلَ كالْغابة "
ذلك أن يقبل أعزل الخالية من التوتر نهائيا تخلق ما سأسميه بنية توقعات بعشرات الإمكانيات لكن النص يقدم اختياره من خارج بنية التوقعات "كالغابة" ويفعل بذلك شيئين: يخلق فجوة: مسافة توتر نابعة من ربط العزلة بالغابة، وفجوة أخرى نابعة من حصر دلالات الغابة اللانهائية نظريا ، في دلالة واحدة تقع هي أيضا خارج بنية التوقعات المرتبطة بالغابة".(78)
فهل تصلح هذه (الفجوة:مسافة التوتر) أن تكون بديل الموسيقا الشعرية في القصيدة ، ومميز الشعرية فيها ؟
ثانيا : الإيقاع:
تعريف الإيقاع:( RHYTHM)
"الإيقاع أقدم الأنواع الموسيقية . وهو العنصر الذي ينظم حركة الموسيقا وتدفقها خلال الزمن."(79)
فالإيقاع جزء من الموسيقا وعنصر من عناصرها.
يقول الدكتور غنيمي هلال:" ويقصد به وحدة النغمة التي تتكرر على نحو ما في الكلام أو في البيت ، أي توالي الحركات والسكنات على نحو منتظم في فقرتين أو أكثر من فِقَرِ الكلام، أو في أبيات القصيدة ، وقد يتوافر الإيقاع في النثر، وقد يبلغ درجة يقرب بها كلَّ القرب من الشعر، أما الإيقاع في الشعر فتمثله التفعيلة في البحر العربي ".(80)
لكن أصحاب قصيدة النثر فهموا الإيقاع فهما يتلاءم مع قصيدتهم، يقول الدكتور النجار:"وهو - توفيق صايغ- إذ يستغني عن إيقاع الوزن فإنه لا بد يستغني عنه بعناصر إيقاعية أخرى هي ما يطلق عليه الإيقاع الداخلي ، وهو يشير إلى إيقاع في النص باستثناء الوزن والقافية الرئيسة".(81)
فقسم الإيقاع إيقاعين داخلي ومعنوي:
1- الإيقاع الداخلي:
يقول:"فكان هذا الإيقاع أبرز ما يكون متمثلا في الحرص على أحرف العلة ، ومن
2- الإيقاع المعنوي
أ ، يقول الدكتور مصلح النجار: ثمة إيقاع يستند أساسا إلى جانب معنوي هو التضاد اللغوي والتقابلات التي تحتشد في الأسطر السابقة
العشي – الصباح / جاهلية – اليقين/ لتعطي – لتأخذي.
وهذا يصنع إيقاعا معنويا ، ينضاف إلى ما يسمى الإيقاع الداخلي أيضا." (82)
وأنت تدرك أن النثر العربي القديم كان بتلك المحسنات البديعية حفيا !
وقد حاول كمال خير بك أن يحلل قصيدة للماغوط تحليلا إيقاعيا مكتشفا فيها "كتلا" إيقاعية متناسبة بدرجة أو بأخرى، حسب تعبيره ، وهو يرى أن الشاعر يفكر بإرادة واعية في إعطاء نصه مسحة موسيقية منتظمة . (83)
أما الدكتور صلح فضل فيبشر بشعر آخر يتيح لنا:" أن نكتشف إيقاعا آخر غير الذي يكاد يصم آذاننا لشدة ما تعودنا رنينه".(84)
وهو يجد ضالته في مقطوعة بعنوان " وتراءى له" للشاعر محمد متولي في مجموعته الشعرية بعنوان" حدث ذات مرة أن" التي يراها "تمثل نموذجا ناجحا لهذه الثورة الشعرية في مصر" وتذكره بما كانت تحدثه الدواوين الانفجارية الأولى من تأثير :
"في القطار/سيدة حافية تغني الآريا الأخيرة لموسيقار مجهول
وفئران تطعم من بطانة مقعدها/ شعراء في هيئة شحاذين/ يتبادلون الصحف القديمة
ومهرول يعثر على قدم حبيبته تحت الحقائب/ بينما شخير الراكب يعلو..
عليك أن تحشو فمه بحذاء ممزق".(85)
ولن يعجز ناقدنا عن أن يلم شتات هذه الأشياء في فكرة "التآكل وانتهاء العالم القديم" وينتهي إلى حكمة مهمة ،هي:"ضرورة الصمت " كما يبرزها المشهد الأخير.
ثم يسألنا الناقد : هل تبشر المقطوعة بانتهاء عصر الغناء الرث والعواطف الفجة التي لا تستحق سوى السخرية والازدراء والبتر العنيف".
هكذا يرى الناقد ضرورة الصمت ولو بالحذاء، أما الشخير فهو في تفسيره "عصر الغناء الرث" الذي ينبغي أن يضرب بالحذاء
فهل لنا أن نفهم أن المقصود بالحذاء حسب تفسير الناقد هو البديل . ألا يرى في هذا إهانة للبديل الذي يبشر به.
لا أظن ، لأن الناقد يتحدث بلغة ثورية ، بل يدخل إلى البحث عن "شعر آخر إيقاع آخر" وكأنه يدخل معركة ، إذ يقول:" أثبت عدد مجلة (الناقد) المخصص لقصيدة النثر أن المخزون الاستراتيجي للشعرية العربية منها عندنا أوفر مما يقدره النقاد.. ويبدو أن قصيدة النثر أصبحت راية الشباب الثائر على الأعراف".
ثم يتحدث عن مشكلة " غيبة الإيقاع الخارجي الظاهر المريح، واختفاء أنساق التفعيلات العروضية من فوق سطح النص" ، ليلجأ إلى حل أكثر راحة ألا وهو:
" أن نتوسع في مفهوم الإيقاع ، ولا نقصره على نوع واحد "، فإذا نحن صنعنا ذلك : "استطعنا أن نتبين ما تبقيه قصيدة النثر وتنميه من إيقاعات".
وإذا ناقشنا هذا النقد بموضوعية – بصرف النظر عن مناقشة قصيدة النثر ذاتها- اكتشفنا أنه غير منهجي، إن مثله كمثل من يقول :" لماذا لا تتوسع في مفهوم الذهب ليشمل الحديد والنحاس ؟ أليست جميعها معادن؟!
ثم يحدثنا الناقد عن " الترجيع الإيقاعي " فليس ثمة إيقاع بدون ترجيع ، وإذا كانت القصيدة تنبني من كِسَرٍ مرصوصة ، ونثار وردي من التفاعيل المبعثرة ، تخلق بنسيجها الصوتي مجالاتها وأصداءها الموسيقية المبتكرة – تظل جملة "الموسيقى: خلفية لا أكثر هي الرباط الذي يشد هيكل البنية الإيقاعية للقصيدة".
فهل ينجح هذا النقد في تعويض الموسيقا المهدرة سلفا؟
أما الشاعر حلمي سالم( في ندوة عُقدت بحلقة الزيتون الإبداعية بالقاهرة لمناقشة ديوان (نقرة إصبع شارك فيها المؤلف) راجع موقع الشاعرة فاطمة ناعوت على الإنترنت : فيقطع الطريق على هؤلاء الذين يتكلفون البحث عن الإيقاع في قصيدة النثر قائلا:
"لقد كنا فيما سبق نردد مثل هذا الكلام حول الإيقاع في قصيدة النثر، ولكني أقول اليوم: وما الذي سيحدث لو لم يكن هناك إيقاع أصلا؟ دعونا من ذلك ولنتأمل لغة كل شاعر وأبنيته وصوره" .
وبعدُ ، فقد حكى طه حسين( 86) عن جوردان السوقة في مسرحية من مسرحيات موليير قوله :"يا للعجب إذًا فأنا أتكلم النثر منذ أربعين سنة ، ولا أدري؟"
ويعلق أديبنا قائلا: " أخشى أيها السادة أن نكون جميعا كما كان جوردان هذا نفهم النثر من أنه كل كلام لم يتقيد بالنظم والوزن والقافية"
وأقول : لو قرأ جوردان بعض نماذج قصيدة النثر لقال : "أنا أتكلم قصيدة النثر منذ أربعين سنة ، ولا أدري!"
أما طه حسين فيقول مستدركا ، ومدركا قيمة النثر:" وأنا إذا قلت النثر فلا أعني ذلك النثر الذي يفهمه جوردان ، إنما أقصد النثر الذي يفهمه الأديب" .
ولإيمان طه حسين جاء نثره بديعا من غير حاجة إلى تعويض.
مستقبل قصيدة النثر:
هل لقصيدة النثر مستقبل
من العسير أن يتنبأ الباحث الدارس لتاريخ الأدب بموت تجربة أدبية حتى لو كانت لا تروق له لأسباب موضوعية أوغير موضوعية ؛ فقد علمنا تاريخ الأدب أن الرفض مهما تكن مبرراته لا يمنع شيوع الشكل الجديد.
وأنت تعرف ما حُكي أن ابن الأعرابي قال، وقد أنشد شعراً لأبي تمام:
إن كان هذا شعراً فما قالته العربُ باطلٌ!
وقد أنصف التاريخ أباتمام دون أن يكون شعر العرب باطلا.
ولنا درس في موقف العقاد الذي حاول التصدي للشعر الحر(التفعيلة) ، وبقي الشعر الحر.
ومن الإنصاف أن يتجرع الشاعر الكبير عبد المعطي حجازي من الكأس ذاتها التي سقاها للعقاد!
وهل سينصت التاريخ الدبي لصيحة الناقد الكبير الدكتور القط" :"إذا كان هذا هو الشعر فأنا منه براء".(87)
وهل سيستمع ناشئة قصيدة النثر إلى تحذير أدونيس يحذر من " الزيف الذي ينتشر باسم التجديد. خصوصا أن الكثير من هذا المزعوم تجديدا ، يخلو من أية طاقة خلاقة ، وتعوزه حتى معرفة أبسط أدوات الشاعر: الكلمة والإيقاع".(88)
أما أنا فأرى – والله أعلم – أن الأشكال الثلاثة (قصيدة البيت ، و قصيدة التفعيلة ، وقصيدة النثر أوقصيدة الإيقاع) سوف تستمر، وأن الصراع بينها أيضا سيحتدم لكني أتمنى أن يكون صراعا إيجابيا وليس إقصائيا، فها أنت ترى أن كل محاولات إقصاء الشعر الأول أو الثاني قد باءت بالفشل ، واستمرا رغم حدة الخلاف بين أنصاريهما في فترات سابقة .
وأن الشعرالأصيل (ولا أقول القديم ) (المسمَّى خطأ بالشعر التقليدي ، أوالعمودي، أو بشعر الشطرين) والذي وصل إلى آفاق عالية على يد مبدعين كالجواهري وأبي ريشة والبردوني ، بما حققوا له من توهج وحيوية ، ما يزال يواصل تجدده رغم المحافظة على الشكل على أيدي شعراء أخلصوا له ، كالدكتور عبد اللطيف عبد الحليم ، والدكتور سعد مصلوح ، وأحمد بخيت، وسمير فراج ، والدكتور عبد الرحمن العشماوي، وغيرهم، وسيظل يزدهر على أيدي ناشئة سيدركون افتقاد محبي الشعر له ، لكنهم سيستمرون في التجديد مفيدين من إنجازات الشعر الحر(التفعيلة)، وقصيدة النثر(الإيقاع) معا.
فليست قصيدة النثر وحدها التي تمتلك المخزون الاستراتيجي (بحسب تعبير الدكتور صلاح فضل).
وكما يجب على شعراء البيت، والتفعيلة البعد عن التقليد ، فإنني أرى أن على حاملي لواء قصيدة النثر الجدد أن يتخلوا عن الشروط التي أراد الشعراء المؤسسون ونقادهم أن يفرضوها عليها وعليهم ،() وبعضهم يحاول ذلك كعماد الغزالي وفاطمة ناعوت ورضا العربي ، حتى لا يظلوا في انعزال عن أمتهم وقضايا أمتهم ، وأن يتخلصوا من فكرة القطيعة، ليقللوا من خسائرهم. وأن يدركوا مدى الخسائر التي تكبدوها بإصرارهم على إهدار الموسيقا الشعرية ، فخسروا بذلك مكاسب حققتها قصيدة الشعر على مر العصور، منها:
1- الغناء
فإن هذا النفر من الشعراء سيحرم من أن يتغنى بقصائدهم النثرية، بما يمثله هذا الغناء من ذيوع وانتشار وكسب مساحة جديدة من المتلقين غير القراء. وذلك بسبب افتقارها إلى عنصر الموسيقا رغم تشبثهم بالإيقاع؛ لأن الإيقاع بحسب تصورهم سيجعل ألحان هذه (النثائر) – إن هي لُحِّنتْ - متشابهة ومكرورة وبعيدة عن ذوق المستمع العربي، حيث يحتاج إلى مط بعض الحروف ليعوض غياب الوزن الأصيل.
2- المسرح الشعري
بما يمثله من ثراء في التعبير ، وتنوع في الأداء الموسيقي، والوصول إلى جمهور خاص.
وأتساءل لو أراد مبدع قصيدة النثر أن يكتب مسرحية شعرية ماذا سيسميها ؟
3- الاستشهاد:
فقد اعتاد كثير من المثقفين حتى غير المعنيين بالشعر منهم الاستشهاد ببض الأبيات المأثورة من الشعر الأصيل(البيت) والشعر الحر(التفعيلة) كالاستشهاد بأبيات الحكمة أو الغزل أو السياسة مثلا .
فهل يستطيع أصحاب قصيدة النثر أن يصلوا إلى هذا المرتقى؟
هل يتاح لهم أن يسهموا في بناء الوعي كما أتيح للشعرالأصيل وشعر التفعيلة؟
4- الجمهور المتلقي :
حتى إذا جادل أصحاب اتجاه قصيدة النثر وقالوا لا يعنينا الغناء ولا المسرح الشعري فإن خسارتَهم الكبرى خسارةُ محبي الشعر الذين انصرفوا عنه انصرافا.
وأحسب أن الخسائر أكثر من هذا وأفدح ، ولكنني أتوقع من كثير من أصحاب قصيدة النثر أن يردوا على ذلك بأنهم غير آبهين لهذه الخسائر، وأنهم زاهدون في تحقيق تلك المكاسب، وسيكون شأنهم معها شأن الذي أراد و لم يستطع أن ينال العنب، فقال:
" إنه حصرم!"
والله أعلم.
[/RIGHT]