كلمات في الفلسفة والدين والعلم
د. أحمد محمد كنعان
إن الكون يبدو مثل التربة الغنية التي تنتشر في كل ما حولنا جاهزة لبذرة العقل حتى تتبرعم وتنمو !
فرايمان دايسون ( اللانهائية في كل الاتجاهات )
لقد شهد التاريخ البشري ظاهرة فكرية متميزة لا تقل شأناً عن تاريخ الأديان ، ألا وهي ظاهرة ( الفلسفة ) ومن المدهش أن نكتشف من خلال استقرائنا لتاريخ الفلسفة واستعراض أهم القضايا التي تناولتها عبر تاريخها الحافل أن نشأة الأفكار الفلسفية الأولى قد واكبت نشأة الأديان نفسها ، ولعلنا لا نجانب الحقيقة إذا قلنا إن ( إبليس ) كان أول من تفلسف على الإطلاق ، وذلك حين أمره ربه بالسجود لآدم أبي البشرية الأول ، فأبى إبليس أن يسجد ، واستكبر، وفلسف القضية على النحو التالي (( قالَ أنا خيرٌ منهُ خَلَقْتَني من نارٍ وَخَلَقْتَهُ من طينٍ )) سورة ص 76 ، والنار كما تَصَوَّر إبليس من خلال تأملاته الفلسفية أفضل من الطين .
ومما يؤيد مذهبنا هذا في مواكبة تاريخ الفلسفة لتاريخ الدين أن الفلسفة والدين يتقاطعان في مناهج البحث والنظر ، ويلتقيان في التركيز على العديد من مسائل الوجود الجوهرية ولاسيما منها ما يدور حول الخلق والخالق ، والنشأة والمصير ، والتأمل بالحكمة من خلق هذا الوجود ، وغير ذلك من المسائل التي هي في جوهرها محاور أساسية في الرسالات السماوية كما هي محاور أساسية في المدارس الفلسفية المختلفة .
ويعد الفيلسوف الإغريقي أفلاطون ( 427 ـ 347 ق. م ) ) أول من أسس قواعد الفلسفة وبيَّن أنها نشاط عقلاني متميز عن بقية الأنشطة الفكرية التي كانت سائدة حتى عصره ، ومن تلك الأنشطة : العقائد الدينية الإغريقية التي تقوم على تعدد الآلهة ، والأساطير ، والشعر ، والمسرحيات وغير ذلك من ضروب الأدب والفن ، فمنذ أفلاطون بدأت الفلسفة تتمايز عن هذه الأنشطة وتتخذ لنفسها طريقة خاصة في التفكير والبحث ، وبدأت تؤسس لنفسها منهجاً نظرياً متميزاً تنظر من خلاله إلى تكوين هذا الوجود ، وبهذا المعنى يعد أفلاطون هو المؤسس الحقيقي للفكر الفلسفي .
والفلسفة ( Philosophy ) كلمة يونانية الأصل مؤلفة من جزأين ( Philo - ) ويعني حب ، و ( Sophy - ) ويعني المعرفة ، وعلى هذا يكون معنى الفلسفة في أصل نشأتها ( حب المعرفة ) إلا أن الفلسفة في واقع الأمر محاولة ذهنية يمارسها العقل البشري لفهم المبادئ الأولى للوجود ، ومعرفة طبيعة العالم ، ونظرية المعرفة ( Epistemology ) هي فرع من الفلسفة يبحث في أصل المعرفة وصدورها ، أما الميتافيزيقا أو ما وراء الطبيعة فتبحث في الطبيعة الغائية للواقع ، وثمة أقسام أخرى للفلسفة منها علم المنطق ( Logic ) الذي يهتم بقواعد التفكير والمحاكمة ، وعلم الأخلاق ( Moral ) الذي يهتم بأصل السلوك الأخلاقي وأنواعه ، وعلم الجمال ( Aesthetics ) الذي يهتم بطبيعة الجمال .
وبما أن الفلسفة تعتمد العقل مصدراً أولياً لها فإنها ترفض القبول بالمسلَّمات والغيبيات مهما كان مصدرها ، حتى وإن كان سماوياً ، فأهل الفلسفة لا يجعلون الإيمان سنداً لما يوصف بأنه حق ، فإذا كان العلم يسلم بشيء يجعله نقطة ابتداء ، كالرياضيات التي تبدأ من العدِّ ، والطبيعة التي تبدأ من المادة ، فإن الفلسفة تحلل هذه البدايات إلى مبادئها الأولى ، والفلسفة في حقيقتها ليست موضوعاً ، بل نشاطاً فكرياً ، وتبعاً لذلك فإن الإنسان لا يدرسها ، بل يمارسها ، وهي إلى حد كبير قضية تحليل مفهومي ، أي التفكير بالتفكير ، أو بمعنى آخر فإن الفلسفة تهتم بتحسين طرق التفكير بالمسائل أكثر من اهتمامها بفحوى المسائل نفسها .
النزعات الفلسفية :
وقد مرت الفلسفة بمراحل تاريخية مختلفة ، وبرز فيها ثلاث نزعات فكرية رئيسية كانت ومازالت شائعة بين المدارس الفلسفية حتى يومنا الحاضر ، فهناك :
(1) نزعة عقلية أو مثالية ( Idealism ) : يرى أصحابها أن ( في العقل مبادئ سابقة على التجربة ، بواسطتها يستطيع اكتساب المعرفة عن العالم الخارجي ، بل هو يفرض عليه مبادئه وقوانينه ، والمعرفة العقلية في نظرهم هي وحدها المعرفة الحق لأنها تتصف بثلاث خصال أساسية : فهي من جهة معرفة مطلقة Absolute بمعنى أنها ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان ، وهي من جهة ثانية ضرورة Necessary بمعنى أنها واضحة بذاتها وتفرض نفسها بشكل حتمي ، فالضروري هنا في مقابل الاحتمالي ، وأخيراً فهي كلية Universal بمعنى أنها عامة مشتركة بين الناس جميعاً )
(2) نزعة مادية ( Materialism ) : تَرُدُّ كلَّ شيء إلى المادة والحركة ، وترى أن الفكر ومنطقه يتبعان الأوضاع المادية ويخضعان لها ، وأصحاب هذه النزعة يرفضون وجهة نظر العقلانيين تماماً ويعارضونها بشدة ، إنهم ينطلقون من مبدأ أساسي ، وهو أن جميع أنواع المعارف التي لدينا مستقاة من الحس والتجربة ، وأنه ليس ثمة في العقل إلا ما تمده به المعطيات الحسية ، ولذلك فجميع أفكارنا يمكن أن تحلل في نظرهم إلى مدركات بسيطة مستمدة من التجربة .
(3) نزعةٌ وسطٌ : بين النزعتين السابقتين تعمل على التوفيق بينهما ، فهي تقرُّ بوجود العقل والمادة معاً وتنظر إلى العقل على أنه أداة لابد منها لإدراك العالم المادي وفهمه واستجلاء أسراره .
وقد نشأ عن هذه النزعات الفلسفية المتباينة الكثير من النظريات والأفكار والمذاهب الفلسفية المتعارضة ، وكان لكل منها أنصار ومؤيدون ، ووضع العديد منها موضع التطبيق العملي كما هي مثلاً حال المادية التاريخية ( Historical Materialism ) التي أسس نظريتها الفلسفيـة في القرن التاسع عشر كل من الفيلسوف الألماني ( كارل ماركس ) وقرينه الألماني أيضاً ( فريدريك إنجلز ) وقادت إلى الثورة الشيوعية البلشفية في روسيا عام ( 1917 ) ثم في الصين والعديد من بلدان العالم ، إلا أن معظم هذه النظريات وما تمخضت عنه من آراء أو نظريات أو تطبيقات لم تستطع أن تحقق للإنسان حلم حياته المنشود بالسعادة والفردوس الأرضي الذي كان ومازال يحلم به في صحوه وفي منامه ، بل لسنا مبالغين إذا قلنا إن الكثير من النظريات الفلسفية التي شهدها التاريخ لم تزد الإنسان إلا شقاء فوق شقائه ، وبؤساً فوق بؤسه .
كما مر تاريخ الفكر الفلسفي بعدة مراحل من التطور ، فكانت هناك ( الفلسفة الشرقية القديمة ) التي ترعرعت في الهند والصين بصورة خاصة ، وقد خالطها الكثير من الأوهام والأساطير ، ولم تتبلور فيها المفاهيم الفلسفية بصورة واضحة على الرغم من قدمها نسبياً بالمقارنة مع الفلسفة الإغريقية التي صاغت الكثير من المفاهيم الفلسفية الواضحة ، ومن أبرز رواد الفلسفة الشرقية القديمة ( بوذا ، زرادشت ، كونفوشيوس )
وكانت هناك ( الفلسفة اليونانية ) أو الإغريقية القديمة التي اهتمت اهتماماً كبيراً بالأخلاق وكان من أبرز روادها ( سقراط ، أفلاطون ، أرسطو ) ، وكانت هناك ( الفلسفة الوسيطة ) التي ترعرعت في المنطقة العربية ، وتأثرت بالأديان كثيراً وحاولت تأييد الدين بالعقل ، أو ما عرف بالتوفيق بين ( العقل والنقل ) أي الوحي ، ومن أبرز روادها المسلمين ( ابن رشد ، وابن سينا ، والفارابي ) ومن روادها المسيحيين ( القديس أوغسطين ، وتوما الإكويني )
وأخيراً ظهرت ( الفلسفة الحديثة ) التي عاصرت الثورتين الحديثتين الصناعية والعلمية ، وتأثرت كثيراً بالاكتشافات العلمية التي حصلت بصورة خاصة خلال القرون الأربعة الأخيرة ( 17 ، 18 ، 19 ، 20 ) ، وعملت على الاستفادة من معطيات هذه الاكتشافات في تدعيم بعض المفاهيم الفلسفية ، وتصحيح بعضها الآخر ، ومن أبرز رواد هذه الفلسفة ( ديكارت، بيكون، كانت، سبينوزا، هيوم )
هموم الفلسفة :
ولا خلاف بأن الفلسفة تعد من أبرز الإبداعات الفكرية التي أبدعها الإنسان عبر تاريخه الطويل ، إلى جانب الأدب وضروب الفنون الأخرى ، إلا أن الفلسفة ظلت تفتقد إلى تلك الأساليب التعبيرية البليغة المشرقة التي يمتاز بها كل من الأدب والفن ، ولاسيما الشعر والغناء ، فقد ظلت الفلسفة ( تبدو لزائر عرضي يلقي نظرة سريعة عليها معقدة بشكل محيِّر ، ومن أسباب ذلك أن الفلاسفة ـ باستثناء بعض الفلاسفة الشرفاء ـ يجدون من الصعب تماماً أن يتكلموا لغةً يفهمها الشخص العادي ، وحتى إذا أراد الفيلسوف أن يتحدث عن موضوع عادي فإنه يتحدث عنه بعبارات مغرقة بالغموض ولهذا فإن غاية ما يمكن أن ترجوه وأنت تقرأ كتاباً فلسفياً هو أن تصل إلى فهم واهٍ للأبعاد السرية للمفردات التي يُؤْثر معظم الفلاسفة أن يستخدموها ، وفي الواقع فليس عليك فعلاً أن تفهم معنى معظم هذه المفردات ، هذا إن كان لها معنى أصلاً ! )
ولعل أروع ما في الفلسفة جهل الفلاسفة بكثير من حقائق الوجود ، وقد يبدو هذا الثناء في غير محله ، ولكنه سيبدو في محله تماماً عندما نوضح أن هذا الجهل الذي يطبع معظم الفلاسفة بطابعه هو الذي جعلهم يحلِّقون في عالم الخيال ، ويغوصون في بحار المجهول ، ويرتادون العوالم البكر في محاولة جادة لكشف أسرارها ، ما جعل بعضهم يصف رحلة البحث الشغوف هذه قائلاً : ( نحن المثقفين لسنا إلا طيوراً طائشة في الفضاء ) ، إلا أن هذا ( الطيش ) الفكري هو الذي أضاء لنا الكثير من الجوانب المظلمة في حياتنا ، وأجابنا على الكثير من الأسئلة الملحة التي لم تكن لتخطر على بالنا لولا ذلك ( الجهل المبارك ) الذي يظل ينخر في جوارحنا باحثاً عن جواب !
وربما للعلة نفسها نجد الفكر الفلسفي لا يملُّ من الدوران حول سؤال المعرفة المحوري الذي يقول : ( لماذا ؟ ) . وهو في الواقع نفس السؤال الذي لا يكفُّ الأطفال عن طرحه على آبائهم وأمهاتهم وأساتذتهم ، وكأن الفلسفة في جوهرها ، وبالرغم من تاريخها الطويل ، كانت ومازالت وسوف تظل تشكل مرحلة الطفولة الأولى في تاريخ الفكر البشري !
ومن عجيب أمر الفلسفة كذلك أن تاريخها حافل بالمفارقات الغريبة ، فقد أظهرت وقائع التاريخ في مناسبات عديدة أن شريحة من الناس ، من ذوي الخبرة المتواضعة ، يمكن أن يقدموا لنا آراء واقتراحات ووجهات نظر عملية معقولة لحلِّ مشكلاتنا السياسية والاجتماعية والأخلاقية ، بصورة أكثر جدوى مما يفعله فريق متمرس من الفلاسفة الأفذاذ ، وهذا ما جعل واحداً من رواد الفلسفة الواقعية هو ( بيكون ) يحكم على الفلسفة حسب ثمارها أو نتائجها العملية وقدرتها على تحسين شروط الحياة ، ولهذا أعلن بيكون قطيعته مع الفلاسفة التقليديين الذين يغزلون على عجلات تصورية بدل أن يستخدموا عجلات حقيقية .
ولعل هذا الميل للفكر النظري البحت لدى أغلب الفلاسفة هو أحد الأسباب الجوهرية لتخلف الأمم التي تشتغل بالعلوم النظرية ، ومنها الفلسفة ، عن بقية العلوم العملية ، ومن الطريف أن نورد هنا هذين النصين اللذين يؤرخان لفترتين من تاريخنا العربي الإسلامي للمقارنة بين حال الأمة التي تعطي العلوم العملية بعض اهتمامها فترتقي بها في معارج التقدم والتمكين في الأرض ، وحال الأمة التي تنشغل بالفلسفة وعلوم الكلام عن بقية العلوم وكيف أنها تقع فريسة للتخلف والضعف .
أما النصُّ الأول فيعود إلى العصر الذهبي لعاصمة الخلافة الإسلامية في بغداد وهو لأبي بكر محمد بن الحسن الكَرَخي ( ت 1019م ) في كتابه ( إنباط المياه الخفية ) وهو يعني بمصطلحات عصرنا الحاضر ( استخراج المياه الجوفية ) يقول فيه : (( لمَّا دخلتُ العراقَ ، ورأيتُ أهلَها من الصِّغار والكبار يُحبُّون العِلْمَ ، ويعظِّمون قَدْرَه ، ويكرِّمون أهلَهُ ، صنَّفتُ في كلِّ مُدَّة تصنيفاً في الحساب والهندسة.. )) ، وأما النص المقابل فيعود إلى فترة لاحقة بدأت فيها علامات التراجع تصيب الأمة مع انهيار مُلْك العباسيين في المشرق والموحِّدين في المغرب ، وهو نصٌّ لابن خلدون ( 1332ـ 1406 ) يتحدث فيه عن مدى اشتغال الناس بعلوم الكلام والفلسفة : (( وكذلك بَلَغَنا لهذا العهد أن هذه العلوم الفلسفية لبلاد الإفرنجة من أرض رومة وما إليها من العُدْوة الشمالية نافقة الأسواق ، وأن رسومها هناك متجددة ، ومجالس تعليمها متعددة ، ودواوينها جامعة ، وحَمَلَتها متوفرون ، وطَلَبَتها متكثرون ، والله أعلم بما هنالك ، وهو يخلق ما يشاء ويختار )) ، ويشير ابن خلدون في موضع آخر إلى أن مسائل الطبيعيات لم تكن موضع اهتمام من الناس آنذاك ، ولذلك تركوها جانباً ، وقد دفع المسلمون من جراء انشغالهم بعلوم الكلام والفلسفة وإهمالهم بقية العلوم العملية ضريبة باهظة انتهت بالأمة إلى هامش الأحداث ، وألقت بها إلى آخر الركب فيما جعلت الآخرين في المقدمة .
معاناة الفلاسفة :
ونحن هنا لا نعمِّم الأحكام ، ولا نريد أن نحطَّ من شأن الفلسفة أو نتجاهل دورها في إثراء الفكر البشري والتحريض الحضاري ، ولكننا نريد التأكيد على أن الحضارات لا تقوم بالفلسفة وحدها بل لابد من تآزر الفلسفة مع بقية العلوم في عملية النهوض والانهماك في بناء الحضارة المنشودة ، كما أننا لا ننحو باللائمة على الفلاسفة وحدهم ، ولا نزعم أن تخلف الأمة الإسلامية وغيرها من أمم الأرض يرجع إلى اهتمامها المفرط بالفكر الفلسفي وإهمالها لبقية العلوم ، فقد كان هناك على مدار التاريخ فلاسفة رواد عاشوا هموم الناس ، وخاضوا غمار الصراعات المختلفة بصدق وإخلاص ، وحاولوا جاهدين أن يساهموا بأفكارهم ونظرياتهم في تقدم البشرية ورقيِّها ، فمنهم من نجح ومنهم من فشل ، شأنهم في هذا شأن كثير من الدعاة إلى التغيير والنهوض .
ولعل أكبر دليل على هذه المشاركة الإيجابية بهموم الناس من قبل الفلاسفة أن الكثيرين منهم تعرَّضوا من جراء أفكارهم ومواقفهم الشجاعة للملاحقة أو السجن أو النفي أو التعذيب ، واتهم بعضهم بحقٍّ أو بغير حقٍّ بالهرطقة والتجديف والكفر والزندقة ، وأحرقت كتب الكثيرين منهم أو مُنعت من النشر ، بل إن بعض الفلاسفة أحرقوا أحياء قبل أن تحرق كتبهم لأنهم ـ بسبب طبيعة الفكر الفلسفي ـ ظلوا يخوضون في المسائل الحساسة ، ولاسيما منها المسائل الدينية والسياسية ، وهي كما نعلم مسائل شائكة محاطة بحقول شاسعة من الألغام شديدة الانفجار ( ولهذا السبب فإن معظم الفلاسفة أدينوا بشكل أو بآخر من سلطات عصرهم ، سواء كانت سلطات لاهوتية ، أم سياسية ، أم اجتماعية ، ولم يعرف الناس قيمتهم إلا فيما بعد ، أي بعد أن ماتوا ودفعوا الثمن ، وأكبر مثال على ذلك الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو الذي عاش محتقراً منبوذاً مطارداً من مكان إلى آخر وكأنه مجرم أو شخص خطير جداً ، وكانوا يرجمونه بالحجارة ويكسرون نافذة بيته حتى تصل الحجارة إلى أقام السرير الذي ينام عليه ، ولكن بعد عشر سنوات أو اكثر قليلاً تندلع الثورة الفرنسية فإذا بهم يكرمون ذكراه ، وينقلون رفاته إلى مقبرة العظماء ، ويتخذون من كتبه دستوراً ومنهاجاً للجمهورية الفرنسية !
أما الفيلسوف فولتير فقد سجن أيضاً في قلعة ( الباستيل ) الشهيرة قبل أن يهرب إلى إنكلترا بلد الحريات في ذلك الزمان ، ثم إلى هولندا ، ومع أن فولتير على عكس روسو قد حظي بالتكريم الجماهيري في شوارع باريس قبل أن يموت بثلاثة أشهر فقط فإن الكهنة رفضوا الصلاة عليه ، ورفضوا دفنه في مقابر المسيحيين ، لأنهم اعتبروه كافراً زنديقاً ، أما الفيلسوف ديدرو ( 1713 ـ 1784 ) فقد اعتقل لفترة من الزمن في سجن آخر ، وحكم على الفيلسوف كوندرسيه ( 1743ـ 1794 ) بالموت ظلماً وعدواناً مما دفعه للانتحار ، وقيل إنهم هم الذين قتلوه بالسم في سجنه، وكذلك كانت نهاية الكثيرين من الفلاسفة والمفكرين وأهل الفكر ودعاة التغيير ) .
ومن سمات التاريخ الفلسفي أيضاً أن معظم الفلاسفة الذي ساهموا في تشكيل الفكر الفلسفي وكانت لهم بصمات واضحة على الفكر الفلسفي كانوا من المنبوذين ، أما المترفون أو ( أبناء الذوات ) الذي يرفلون في العيش الرغيد ولا يعانون من الحرمان والفقر والجوع وكوارث هذه الدنيا التي لا تنتهي فلا يمكن لهم أن يصبحوا فلاسفة ، بل ولا يمكن لهم أن يفهموا من التجربة البشرية إلا نصفها ، هذا إذا ما فهموا شيئاً على الإطلاق ، وحدهم أولئك الذين عركتهم الحياة وصهرتهم في أتونها الملتهب مرشحون إنجاز الأعمال الفلسفية الكبرى ، على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي الكبير ميشيل سير .
ومما يسجل لصالح الفلسفة عبر تاريخها الطويل أن أحداً من الناس لم يقتل بسبب الفلسفة كما قتل الملايين بسبب التعصب الديني أو المذهبي أو الحزبي ، ذلك التعصب المقيت الذي أدخل البشرية في حروب طاحنة تركت جروحاً غائرة وتشوهات واسعة في ذاكرة التاريخ ، وربما يعود السبب في هذا الفارق ما بين الفلسفة وغيرها من ضروب الفكر البشري والعقائد إلى انشغال الفيلسوف بالفكر أكثر من انشغاله بالواقع ، على النقيض من حال السياسيين وأصحاب المذاهب العقائدية الذين ينشغلون بالواقع عن التفكير بتغيير هذا الواقع ، ويعملون جهدهم على حشد الأنصار والمؤيدين والمريدين ، ولا يتورعون عن ارتكاب أشد الحماقات من أجل المحافظة على هذا الواقع ضماناً لاستمرارهم في ( الزعامة ) ، أما الفيلسوف الحق فلا تجد عنده هذه النزعة ، وقلما يحفل بحشد الأنصار والمؤيدين والمريدين ، وتاريخ الفلسفة حافل بالفلاسفة الذين قضوا نحبهم بعيداً عن الناس ، في منفى ناء ، أو في سجن شديد الظلمة والبرودة ، أو في برية ليس فيها غير الوحوش !
جدل الفلسفة والدين :
من خلال استقرائنا وتقصينا لأبرز المسائل الفلسفية التي شهدها تاريخ الفلسفة ومقابلتها بالمسائل الدينية نعود هنا للتأكيد على الدعوى التي بدأنا بها هذا الفصل ، وهي أن الفكر الفلسفي قد نشأ كرجع الصدى للرسالات السماوية ، ومما يعزز دعوانا هذه ما أوردناه آنفاً عن ( فلسفة ) إبليس التي واكبت ظهور أول البشر وأول نبي ، ثم الوقوف عند أبرز مقولة للفيلسوف الإغريقي طاليس ( 620 ـ 550 ق. م ) الذي يعده المؤرخون ( أبا الفلسفة ) تلك المقولة التي تردُّ نشأة العالم إلى عنصر أساسي هو ( الماء ) ، وهي مقولة قديمة جداً لا نستبعد أنها وردت في بعض الكتب السماوية الأولى على غرار ما وردت في القرآن الكريم ، في قوله تعالى : (( وهو الذي خَلَقَ السَّمواتِ والأرضَ في سِتَّةِ أيَّامٍ وكانَ عَرْشُهُ على الماء )) سورة هود 7 ، وقولـه تعالى : (( أَوَلَمْ يَرَ الذينَ كَفَروا أنَّ السَّمواتِ والأرضَ كانتا رَتْقَاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا من الماء كُلَّ شَيْءِ حَيٍّ أفلا يُؤمنون )) سورة الأنبياء 30 ، وهذا ما يجعلنا نرجح أن المقولات الفلسفية الأولى قد انطلقت أساساً مما جاء في الرسالات السماوية التي تضمنت الكثير من الإشارات لظواهر الكون ومخلوقاته ، وطبيعة العالم ، ونشأته ومصيره ، وغير ذلك من المسائل الفلسفية الأساسية التي تعاقب على تناولها ومناقشتها معظم الفلاسفة على مدار التاريخ .
وإن من يتعمق في دراسة المسائل الفلسفية الأساسية يجد أن الفلسفة في جوهرها كالدين تعنى بدراسة المبادئ الأولى للوجود ، ولكنها تختلف عن الدين بأنها تعتمد العقل مرجعية أساسية ووحيدة لها ، ولا تقيم وزناً للمُسَلَّمات والغيبيات الدينية مهما كان مصدرها ، على النقيض من الدين الذي إلى جانب اعتماده على العقل والبرهان العقلي فإنه لا يُغفل الغيبيات والمسلمات ، بل إنه يجعل بعضها معلوماً من الدين بالضرورة لا يجوز لمؤمن أن ينكرها ، وهنا تكمن نقطة الخلاف الجوهرية بين الدين والفلسفة ، وهذا الخلاف في حقيقته خلاف مفتعل افتعله بعض الفلاسفة الذين وقفوا من الدين مواقف سلبية بحجة أن الدين لا يحفل بالعقل ، وأنه يعوِّل أساساً على الخرافة والمعجزة والأسطورة على حساب الواقع والتجارب العلمية والبرهان العقلي !
وهذه كلها اتهامات لا أساس لها من الصحة ، ولا تصمد أمام البحث العلمي الدقيق ، فقد تضافرت نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية وإجماع الفقهاء على أن العقل هو أساس التكليف الشرعي ، وقد حفل القرآن الكريم بالكثير من الآيات التي تتوجه بالخطاب إلى (( الذين يعقلون .. أولي الألباب .. الذين يتفكرون .. الذين يتدبرون .. )) كما أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم بيَّن أن العقل هو أصل التكليف فقال : (( رُفِعَ القلمُ عن ثلاثةٍ : عن النائمِ حتى يستيقظَ ، وعن الصبيِّ حتى يحتلمَ ، وعن المجنونِ حتى يَعْقِلَ )) .
وهكذا تثبت نصوص الكتاب والسنة أن الدين لا يتجاهل العقل ، ولا يهمل البرهان العقلي كما يزعم أهل الفلسفة ، بل هو يجعل العقل أساس التكليف ، وينكر على الذين يعطلون عقولهم وحواسهم عن رؤية الواقع ويتوعَّدهم بأشد العذاب (( ولقد ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كثيراً من الجنِّ والإنسِ ، لهم قلوبٌ لا يَفْقَهونَ بها ولهم أعينٌ لا يُبْصرونَ بها ولهم آذانٌ لا يسمعونَ بها ، أولئكَ كالأنعامِ بل هم أَضَلُّ ، أولئكَ هُمُ الغافلونَ )) سورة الأعراف 179 .
ويمتاز الدين عن الفلسفة بنظرته الشمولية للوجود ، فهو لا يتوقف في نظرته للعالم عند ما هو مشاهد أو محسوس فحسب كما هي حال الفلسفة ، بل تتعدى نظرته عالم الشهادة إلى عالم الغيب الذي تؤكد آيات الكتاب وآيات الآفاق والأنفس أنه أوسع وأرحب من عالم الشهادة بما لا يُقاس ، وقد اعترف جهابذة العلوم أخيراً بأن ما يجهلونه من هذا الوجود أكثر بكثير مما يعلمونه حتى قال قائلهم : (( لقد أصبحنا اليوم نعي تماماً أننا كلما ازداد فهمنا كلما ازدادت الاحتمالات الغريبة لجهلنا ، فالكون في الحقيقة أغرب بكثير مما يمكننا أن ندركه )) !
وفي كل يوم تتكشف لنا حقائق جديدة في شتى حقول المعرفة مما يعبر عملياً عن الحقيقة القرآنية : (( وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً )) ومن ثم فإن إنكار بعض الفلاسفة لبعض ما أشارت إليه الرسالات السماوية مما هو غيبي أو غير محسوس لا يقوم على أساس من العلم ، وها هو ذا واحد من أبرز علماء الفيزياء النظرية المعاصرين وهو البريطاني ( فرانك كلوز ) يصرح بوضوح أن هناك عالماً آخر غير مرئي لنا يشاطرنا هذا الوجود ، فهو يقول : ( يتركز اهتمام الفيزياء النظرية في الوقت الراهن في نظرية تصدر أحكاماً عميقة بشأن المادة التي نسج منها الكون ، وهذه النظرية اسمها الرمزي هو الأوتار الفائقة ( String Theory ) وهي تقضي بأنه في وقت الانفجار الكبير كان هناك عشرة أبعاد ، وثمة ستة من تلك الأبعاد أصبحت مخفية عن حواسنا الفجة ، ولكنها تترك علاماتها بما ينشأ عنها من كهرباء ، ونشاط إشعاعي نووي ، وما يتعلق بذلك من ظواهر ، ومن النتائج الأخرى البارزة المترتبة على هذه النظرية أنها قد تدلنا ضمناً على أن ثمة كوناً خفياً بالكامل يعمل هنا في الداخل مباشرة من الكون المألوف لنا )
ومن الملاحظات المهمة التي تستحق التأمل طويلاً في إطار المقابلة بين الدين والفلسفة ، أن الفلاسفة يتوجهون بأفكارهم إلى نخبة المجتمع ، ولا يحفلون كثيراً بالعامة ، ولاسيما الطبقات الدنيا من الناس الذين يعتقد الفلاسفة أن عقولهم قاصرة عن الارتقاء إلى مستوى الفكر الفلسفي الرفيع ، وبمعنى آخر يمكن وصف الخطاب الفلسفي بأنه خطاب متعالٍ ( Transcendent ) أو مترفِّع عن المجتمع ، على النقيض من الخطاب الديني الذي يتوجه إلى الناس جميعاً ، بمختلف طبقاتهم وانتماءاتهم ومستوياتهم الفكرية ، ولهذا السبب نجد أن الأفكار والنظريات الفلسفية على الرغم من كثرتها وكثرة الفلاسفة الذين ظهروا على مدار التاريخ البشري فإنها نادراً ما أدت إلى تغيير ملموس في أحوال الناس ، على النقيض من الأفكار الدينية والرسالات السماوية التي كان لها تأثير أعمق وأوسع بكثير مما كان للأفكار الفلسفية ، اللهم إلا تلك الأفكار الفلسفية التي آمن بها بعضهم ، ورفعوها إلى مصافِّ العقائد الدينية ، وخاضوا من أجلها الثورات الدامية ، كالفلسفة الماركسية التي أشعلت الثورة البلشفية في روسيا ( 1917 ) والثورة الثقافية في الصين ( 1949 ) ، فقد أحدثت هذه الفلسفات العقائدية بعض التحولات الاجتماعية ، وأحرزت بعض التقدم العلمي والتقني ، وتجاوزت في بعض الأحيان حدودها الجغرافية وانتشرت في مطارح بعيدة من الأرض ، إلا أن الضريبة التي ظلت الشعوب تدفعها من جراء تلك الأفكار كانت باهظة التكاليف إلى الحد الذي جعل أصحابها ومعتنقيها ومؤيديها يتخلون عنها ، ويبدؤون من جديد رحلة العودة إلى الدين بحثاً عن بدائل أقلَّ ثوريةً وأكثرَ واقعيةً واحتراماً لحقوق الإنسان وكرامته .
ومع تسليمنا بأن الإبحار في عالم الفلسفة ممتع ولا يخلو من الفائدة ، ومع اعترافنا أيضاً بأن الفلسفة قد أغنت الفكر البشري بالكثير من المفاهيم التي حملته على التحليق بعيداً وعالياً من أجل رؤية للوجود أشمل وأرحب ، إلا أن هذا التحليق المغرق في المثالية كثيراً ما أبعد الفلاسفة عن رؤية الواقع المعاش ، وضلل سعيهم نحو الحلول العملية القريبة التي تحتاجها البشرية المنكودة لحلِّ مشكلاتها اليومية العويصة ، فقد ظل معظم الفلاسفة يحلمون بيوم يأتي على البشرية فيقرأ فيه كل إنسان روائع أرسطو ومحاورات أفلاطون ، ولكنهم غفلوا عن أهم حلم كان ومازال يداعب أجفان البشرية ، وهو أن يأتي على الناس يوم يجد فيه كل إنسان من القوت ما يُسكت جوعه .
وربما لهذا السبب ظل أفلاطون يدعو الفلاسفة للنزول من سماء الفلسفة إلى أرض الواقع ، إذ لا قيمة في رأيه للأفكار المجرَّدة إذا لم نقم بتجربتها في عالم الناس ، وكان أفلاطون يدعو تلاميذه للتنافس مع رجال الأعمال ذوي الرؤوس الفردية اليابسة ، ورجال السياسة الدهاة لكي يتعلموا من كتاب الحياة نفسها ، ويحرقوا أصابعهم ، ويحكُّوا ذقونهم الفلسفية أمام حقائق العالم القاسية ، ويكسبوا خبزهم ومعيشتهم بعرق جباههم ، وكان يقول : إن هذا الامتحان العملي ينبغي أن يستمر دون رحمة أو شفقة حتى يتخلص الفلاسفة من لعنة الزهو والخيلاء ويحققوا في أنفسهم حالة الرشد والحكمة والواقعية التي قدمتها لهم التجارب .
وهذا هو المنهج الذي يدعو الدين أتباعه للسير عليه ، فهو يدعوهم للانخراط في الحياة والتعايش مع الواقع ، لأن هذه المعايشة هي المحكُّ الحقيقي للإيمان ، كما أن الدين ظل على الدوام أكثر من الفلسفة التصاقاً بهموم الناس وقضاياهم الواقعية ، وكان التشريع السماوي أكثر مسايرة واستجابة لحاجات الناس ، وأكثر إحساساً بمعاناتهم ، كما قدَّم لهم الحلول العملية التي توافق فطرتهم وتعينهم على القيام بأمانة الاستخلاف في هذه الدنيا ، وتحقق لهم السعادة الحقيقية التي يتوقون إليها ، ليس في الدنيا وحدها ، بل في الآخرة كذلك .
ومما يؤخذ على الفلاسفة أيضاً تظاهرهم بالثقة التي لا حدود لها ، وزعمهم المبالغ فيه أنهم يملكون السفينة المجهزة تجهيزاً جيداً للإبحار ، ودفة القيادة الصالحة للإقلاع بها إلى مختلف الجهات وفي كافة الظروف والأنواء ، إلا أن سفينتهم المزعومة هذه نادراً ما خاضت عباب البحر بل ظلت تقضي معظم أوقاتها مسترخية في الظل عند الشاطئ ، سارحة في دنيا الخيال والتأمل ، بانتظار اللحظة المناسبة للإبحار ، وليست مسرحية ( بانتظار غودو ) الشهيرة سوى مثال أدبي واحد على مثل هذا الانتظار الفلسفي العبثي غير المجدي .. أما الدين بالمقابل فقد كان أكثر واقعية ، وأكثر التصاقاً بهموم الناس ، فقد قدِّم لهم حلولاً واقعية للمشكلات التي قد تعترض حياتهم ، وهو لم يَعِدهم بفردوس على الأرض كالتي يعدهم بها الفلاسفة المثاليون ، بل يحضِّرهم نفسياً لمواجهة أصعب الظروف في هذه الحياة الدنيا ، ولكنه في الوقت نفسه يحرِّضهم على تغيير هذه الظروف إلى ما هو أفضل ، ليس من خلال مقولات نظرية كما يفعل أكثر الفلاسفة ، بل من خلال مناهج عملية توافق قدراتهم وإمكانياتهم ، وتراعي فطرتهم البشرية .
ولا يفوتنا ـ ونحن نقابل بين الدين والفلسفة ـ أن نشير إلى أن الانهماك بالفلسفة لابد أن ينتهي بالفيلسوف إلى إحدى نهايتين متناقضتين أشد التناقض فيما يتعلق بموقفه من الدين ، فإن الانهماك بالفلسفة إما أن يحلق بالفيلسوف في معارج الإيمان عندما يدرك من خلال تأملاته الطويلة العميقة في مخلوقات هذا الوجود قدرة الخالق التي لا حدود لها ، وعظمة هذا الوجود الذي أبدعته يداه على غير مثال سابق ، وإما أن ينتهي المطاف بالفيلسوف إلى الإلحاد التام كما حصل لكثير من الفلاسفة الذين أسَرَتْهم النزعة المادية فأرجعوا كل مظاهر الوجود إلى المادة ، واعتقدوا أن العالم قديم ، وأنه هو الذي أوجد نفسه بنفسه من غير خالق !
ومن أجل تجنب الوقوع بمثل هذا المطب الخطير فقد تحاشى كثير من فقهاء الإسلام الخوض في المسائل الفلسفية ، بل كانوا يحذرون منها ، ولعل خير مثال على هذا الموقف من الفلسفة موقف الإمام أبي حامد الغزالي ( 1059 ـ 1111م ) الذي بلغ الاهتمام بالفلسفة في عصره حداً دفعه لخوض عبابها ، وبعد رحلة طويلة خرج علينا بكتابه الشهير( تهافت الفلاسفة ) الذي هاجم فيه الفلاسفة وعمل على دحض مقولاتهم المختلفة ، وربما يرجع هذا الموقف من الغزالي وغيره من الفقهاء الذين عارضوا الفكر الفلسفي إلى ما شاهدوه من أن الذين خاضوا في المسائل الفلسفية العويصة لم يسلموا في الغالب من بعض شطحاتها أو مطباتها ، وهذا ما جعل ( ابن خلدون ) يخصص فصلاً كاملا للحديث عن الفلسفة ، مبيناً ما فيها من منافع ، ومحذراً في الوقت نفسه مما تنطوي عليه من مزالق ومعاطب ، وبعد حديث طويل يختم الفصل قائلاً : ( .. فيستولي الناظر فيها بكثرة استعمال البراهين بشروطها على مَلَكة الإتقان والصواب في الحجج والاستدلالات ، لأنها وإن كانت غير وافية بمقصودهم فهي أصحُّ ما عَلمناه من قوانين الأنظار ، هذه ثمرة هذه الصناعة ، مع الاطلاع على مذاهب أهل العلم وآرائهم ومضارها ما علمت ، فليكن الناظر فيها متحرزاً جهده من معاطبها ، وليكن نظر من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات ، والاطلاع على التفسير والفقه ، ولا يَكُبَّنَّ أحدٌ عليها وهو خلو من علوم الملَّة ، فَقَلَّ أن يَسْلم لذلك من معاطبها ) ، ومما لا ريب فيه أن تأصيل علم الفقه الإسلامي على يدي الإمام الشافعي ( 150 ـ 204هـ ) في وقت مبكر من تاريخنا الإسلامي قد ساهم مساهمة كبيرة في حماية الدين من الأفكار الفلسفية المنحرفة التي لم يسلم منها دين آخر قبل الإسلام.
إلا أننا ـ مع كل ما قدمناه عن الفلسفة وأهلها ـ لا مندوحة لنا من الاعتراف بأن للأفكار الفلسفية سحراً خاصاً ، سحراً عجيباً آسراً للنفوس التواقة للتأمل والمعرفة ، وهذا ما يجعل النزوع إلى الفلسفة علة عصية قَلَّ أن يبرأ منها واحد من أهل الفكر والنظر ، وليس من النادر أن تسيطر بعض الأفكار الفلسفية على بعضهم إلى الدرجة التي جعلت الفيلسوف الشاعر ( محمد إقبال ) يناجي ربه بضراعة ويقول : ( يا ربّ .. إمَّا أن تُرسل لي من يَفْهَمُ عَلَيَّ ، أو أن تَنْزعَ هذه الأفكارَ من رأسي ) !
وهكذا نجد أن عامة الفلاسفة يعيشون الحياة وهم يتحسسون نبضها ، ويتفكرون بتفاصيلها ، باحثين عن العلة في ذلك كله ، بينما نجد عامة الناس سادرين في سفاسف الأمور ، يسعون جاهدين لاقتناص شهوة عابرة أو نزوة هابطة ، غير عابئين بشيء مما يجري حولهم ، ولا مكترثين بالمستقبل الذي لا يكفُّ عن مفاجآته المحزنة ، ولهذه الأسباب نجد عامة الناس زاهدين بالفلسفة وأهلها ونظرياتها ومقولاتها ، وهذا ما يجعل الفيلسوف عرضة للوقوع بمأزق الانفصال عن الناس ، أو انفصال الناس عنه خشية أن يصابوا بلوثة الفلسفة التي ساءت سمعتها كثيراً من خلال مواقف بعض الفلاسفة من الدين ، تلك المواقف التي تركت انطباعاً قوياً عند عامة الناس بأن الفلسفة هي قرين الإلحاد والكفر ، وهذه في الواقع فرية لا يجوز تعميمها ، فقد شهد تاريخ الفلسفة الكثير من الفلاسفة المؤمنين ، وتراثنا الفلسفي الإسلامي خير شاهد على ما نقول ، فهو حافل بأسماء الفلاسفة المسلمين الذين اشتغلوا بالفلسفة ولم يجدوا بينها وبين الدين ذلك التقابل الحاد ، بل إن بعض فقهائنا الفلاسفة حاولوا التوفيق بين الدين والفلسفة ، ومنهم الفيلسوف الفقيه الأندلسي أبو الوليد ابن رشد ( 1126 ـ 1198 ) الذي بلغ مرتبة عالية في العلوم الشرعية إلى جانب علو كعبه في الفلسفة ، وقد تولى القضاء أكثر من مرة ، وألف كتابه( بداية المجتهد ونهاية المقتصد ) الذي يعد عمدة في الفقه ، وألف بالمقابل كتابه القيم ( فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال ) والحكمة هي الفلسفة ، وقد عمل ابن رشد في هذا الكتاب على التوفيق بين الفلسفة والدين ، وأشار إلى أن الشريعة الإسلامية قد حضَّت على النظر العقلي وأوجبته ، وأن الشريعة والفلسفة حقٌّ ، وأن الحق لا يضادّ الحق بل يؤيده ويشهد لـه .
ونذكر من فقهائنا الذين اشتغلوا بالفلسفة أيضاً ( ابن خلدون ) الذي ناقش في ( المقدمة ) الكثير من المسائل الفلسفية ، وجعل علم التاريخ فرعاً من الفلسفة ، وكان فيلسوفاً فذاً بين الفلاسفة المسلمين وغير المسلمين ، ومازال لكتابه الفريد( المقدمة ) مكانة كبيرة عند دارسي الفلسفة والتاريخ والاجتماع إلى يومنا هذا .
وخلاصة القول .. فإن الفلسفة والدين يلتقيان في الكثير من المسائل الجوهرية ولكنهما يختلفان في بعض طرائق البرهان والنظر والنتائج ، ولعل نقطة الالتباس الأساسية بينهما ظَنُّ بعض الفلاسفة أن الدين يقوم على الإيمان الغيبي ولا يقيم وزناً للبرهان العقلي ، وهذه كما أثبتنا فرية غير صحيحة ، فالقرآن الكريم حافل بالشواهد التي تدعو للبرهان العقلي ، بل إن القرآن الكريم يعتبر التفكر العقلي بآيات الآفاق والأنفس هي الدليل على صدق الرسالة السماوية ، كما قال تعالى : (( سَنُريهِمْ آياتِنا في الآفاقِ وفي أنفُسِهِمْ حتَّى يَتَبَيَّنَ لهم أنَّهُ الحَقُّ ، أوَلَمْ يَكْفِ برَبِّكَ أنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهيدٌ )) سورة فصلت 53 ، وهذا خير شاهد على مكانة العقل والبرهان العقلي في الإسلام خاصة ، وفي الأديان السماوية عامة .
مأزق الفلسفة في عصر العلم :
بالرغم من كل ما قدمناه عن الفلسفة وإسهاماتها العظيمة في إثراء الفكر البشري ، وبالرغم من أنها كانت ومازالت ظاهرة فكرية بشرية متميزة لا غنى عنها في تطوير طرائق تفكيرنا ، وإثارتها للأسئلة المدهشة الرائعة اللازمة لتحريض الفكر البشري على ارتياد العوالم البكر ، فإن الفلسفة بعد هذا العطاء الغني الذي قدمته على مدار تاريخها يبدو أنها قد دخلت أخيراً ومنذ بداية عصر العلم الحديث امتحاناً صعباً قد تخرج منه بحالة مأساوية لتمسي مجرد ترف فكري غير قادر على تقديم أية إضافة حقيقية للعلم ، فقد اتسعت الهوة كثيراً ما بين العلماء والفلاسفة منذ مطلع القرن التاسع عشر ( وبات العلماء ينظرون نظرة شك إلى تأملات الفلاسفة التي كثيراً ما بدت لهم وقد أعوزتها الدقة في الصياغة ، وأنها تدور حول قضايا عديمة الجدوى ، ولا حلَّ لها ، أما الفلاسفة فلم يعودوا ـ بالمقابل ـ يهتمون بالعلوم ، لأن نتائجها كانت تبدو لهم محدودة ، ولقد كان هذا التباعد ضاراً بكل من الفلاسفة والعلماء )
إلا أن هذا المأزق ينبغي ألا ينسينا دور الفلسفة في بلورة كثير من المفاهيم العلمية عبر تاريخها الطويل ، فقد كان للفلسفة دور لا ينكر بتحسين طرائق التفكير ، وترسيخ قواعد المنطق العقلي ، والحث على التفكر والبحث والنظر ، مما كان لـه تأثير كبير في بلورة مفهوم العلم آخر المطاف ، علماً بأن تاريخ الفلسفة من جهة وتاريخ العلم من جهة ثانية قد شهدا في البدايات فترة طويلة كانت فيها المفاهيم العلمية والمفاهيم الفلسفية مختلطة بعضها ببعض ، وبما أن المفاهيم الفلسفية قد تبلورت قبل أن تتبلور المفاهيم العلمية بوقت طويل فإن المنطق التاريخي يقتضي الاستنتاج بأن الفلسفة كانت المؤسس الحقيقي للعلم ، وإذا أردنا الدقة التاريخية فإن التمايز ما بين العلم والفلسفة لم يبدأ إلا منذ فترة قريبة ، أي منذ القرن العاشر الميلادي ، عندما وضع العلماء المسلمون أسس المنهج العلمي التجريبي الذي أقصى من ساحة العلم المنطق الفلسفي الأرسطي الذي يقوم على البحث عن الحقائق في الأذهان والألفاظ ، وأحلَّ محله منهج البحث عن الحقائق في الطبيعة والواقع من خلال الملاحظة والتجربة والبرهان .
ومن الغريب حقاً أن هذا الفصل ما بين الفلسفة والعلم لم يقم به العلماء وحدهم ، بل ساهم فيه أيضاً نخبة من الفلاسفة الأفذاذ ، في طليعتهم الفلاسفة المسلمون في الأندلس ، من أمثال ابن رشد وابن خلدون ، ثم فلاسفة عصر النهضة والتنوير في أوروبا ، من أمثال الفيلسوف الإنكليزي فرانسيس بيكون ( 1561 ـ 1626 ) الذي دعا إلى استقلال العلم عن الفلسفة استقلالاً تاماً ، وقال بضرورة تبني المنهج العلمي التجريبي الذي وضعه المسلمون ، وركز على أهمية التطبيق العملي في أي علم وإلا فلا يسمى العلم علماً في اعتقاده ، ثم الفيلسوف الرياضي الفرنسي ديكارت ( 1596 ـ 1650) الذي ركَّز على أهمية المفاهيم الرياضية في ميدان العلم على أساس أن العلم الرياضي هو أدق العلوم ، وتتلخص فلسفته في ثلاثة أمور ، هي إيجاد علم يقيني ، وتطبيق هذا العلم اليقيني تطبيقاً عملياً يمكِّن البشر من تسخير الطبيعة ، وتحديد العلاقة بين هذا العالَم وبين الخالق عزَّ وجلَّ ، وبهذه المبادئ وهذه الطريقة في منهج التفكير نبَّه هذان الفيلسوفان الأذهان إلى الجانبين اللذين أصبح العلم الحديث يرتكز عليهما خلال تطوراته التالية ، وهما الملاحظة الأمينة للواقع ، والقدرة على صياغة قوانين هذا الواقع بطريقة رياضية .
ومع تطور العلوم ، ومع التنامي المتسارع للنزعة العلمية الحديثة التي لم تعد تقبل بأية فكرة إلا من خلال التجربة والبرهان والقوانين الرياضية الصارمة ، حدث ما يشبه الزلزال في البنى الفلسفية القديمة ، فراحت تنهار واحدة بعد الأخرى ، وقد عبَّر بعض العلماء المعاصرين عن هذا المأزق الذي وصلت إليه الفلسفة مؤخراً ، ومن هؤلاء عالم الفلك البريطاني ( ستيفن هوكنغ ) الذي يعد من أعظم علماء الفيزياء النظرية في عصرنا الراهن ، فقد كتب يقول : ( حتى الآن ، كان معظم العلماء منهمكين في تطوير نظريات تصف ما هو الكون ، وتطرح السؤال : لماذا ؟ في حين أن الفلاسفة الذي مهمتهم التساؤل (( لماذا ؟ )) لم يتمكنوا من مواكبة تقدم النظريات العلمية ، فقد كان الفلاسفة في القرن الثامن عشر ، يعتبرون سائر المعرفة الإنسانية ، بما فيها العلوم ، حقل اختصاصهم ، ويناقشون أسئلة مثل : هل للكون بداية ؟ إلا أن العلم في القرن التاسع عشر والقرن العشرين أصبح تقنياً ورياضياً إلى حد يفوق قدرة الفلاسفة وأي شخص آخر باستثناء قلة من المتخصصين ، فخفف الفلاسفة من مدى تحرياتهم ، حتى قال ويتجنشتاين ( Wittgenstien ) أشهر فلاسفة هذا العصر : إن المهمة الوحيدة الباقية للفلسفة هي تحليل اللغة .. فأي انحدار هذا للأعراف الفلسفية العظيمة ، من أرسطو إلى كانط !؟
د. أحمــد محمــد كنــعان
kanaanam@hotmail.com