شاعرية السرد وعبقرية الحوار
لدى الأديبة القديرة الأستاذة صابرين الصباغ
"صراخ الطين" أنموذجا
تجسد الأديبة القديرة الأستاذة صابرين الصباغ حالة إبداعية متفردة في كتابة القصة والرواية حيث تتميز بأسلوب خاص يتسم بشاعرية السرد ، المفضي إلى إيحاء التصوير ومجازية التعبير ، كما تبرع في توظيف الحوار توظيفا فنيا موفقا في بناء القصة والرواية.
وقد جاءت قصة صراخ الطين أنموذجا صبغته أديبتنا بصبغتها القصصية الخاصة.
أولا: القصة:
أطبق الصمت على فم حياتنا ، صار عقيدتها ، بعدما أغمض لسانه عن الحديث ..!!من مجموعتي القصصية الجديدة
أصابني مرض الهدوء القاتل ؛ حرق كل عشب الصبر داخلي..
فررت إلى الطين والماء ، احترفت هروبي ، كلما صنعت نموذجا ، أثني عليه الجميع ..!!
لكني لأدري لماذا ..؟ كلما صنعت نموذجا لطائر كان بلا أجنحة ، أو كفاً بلا أصابع ..!!
تضغط أناملي على الطين فتشمه ببصمات حزن تفضح ما تخفيه ملامحي ..
بعدما أتقنت لعبة هروبي ، قررت عمل نموذج ، هدية عيد ميلاد للذي أجبرني على هذا الهروب الجميل ..!!
أحضرت طينا ذكورياً ، أعجنه ليصبح ليناً ، كلما لانَ ، ضغطت أكثر وأكثر وأكثر ، حتى صرخ الطين ألماً ..!!
بدأت في العمل ...........
هذه الجبهة التي سُطرت بخطوط من الدهشة برؤية جمالي وأناقتي ..!!
تلك العينان التي حرصت أن يشع بريقها ، أحييت نظرة العشق القديمة التي دُفنت بين لحد جفنيه ..!!
أنفه المعقوف الذي يتوسط ميدان وجهه كمثال للعزة والفخر ..
شاربه الكث كزخات المطر الذهبية ..
ذقنه ، وطابع بريد الحسن الذي يقسمها كأنه رسالة للجمال ..!!
نحته بأصابع حبي له ، بعدما انتهيت من وضع اللمسات الأخيرة ، أسدلت عليه ستاراً ..
يوم عيد ميلاده ، أخذته لأريه هديته ..!!
طلبت منه أن يغمض عينيه ؛ عند المفاجأة ، أزحت الستار ..
- ما هذا ..؟ هذا أنا ..؟ لكن أين ..؟؟
- أين ماذا ...............؟
... حتى الحروف تشيبُ ...
============
أولا : شاعرية السرد :
من الوهلة الأولى نلمس أن السرد هنا يلجأ إلى مستوى مجازي ، يجنح إلى التصوير لا التقرير ، والإيحاء لا المباشرة وفي هذا إفادة من طبيعة الشعر لإثراء اللغة السردية بطاقات الشعر وإمكاناته الفنية، دون أن تفقد اللغة قدرتها على القصّ
لقد امتزجت السردية بالشعرية من أول جملة:
أطبق الصمت على فم حياتنا ، صار عقيدتها ، بعدما أغمض لسانه عن الحديث ..!!
فالسرد هنا لا يشير إلى أحداث بل يوحي بها عن طريق المجاز والتصوير
وهو ليس تصويرا جماليا فحسب بل سنكتشف أن له قيمة عضوية في بناء القصة، فلم تطغَ الشعرية على السردية وإنما زادتها عمقا وتأثيرا.
إن إطباق الصمت على فم الحياة ، "أطبق الصمت على فم حياتنا "
يعكس مدى إحساس البطلة بفداحة الصمت (عبر استخدام ضمير المتكلمين)
وتلح القاصة هنا على تجسيد هذه الحياة شخصا من شخوص القصة وليست مجرد مسرحا لها بقولها:" صار عقيدتها "
فلم يعدِ الصمت مجرد عادة لها بل عقيدة لا تفرط فيها للدلالة على شدة الملازمة .
وهي تحمِّل البطل جريرة هذا الصنيع وحده ، لأنه هو الذي أصاب هذا الفم الذي كان مؤهلا للكلام أو الغناء عندما أغمض هو لسانه عن الحديث.
وهي صورة مبتكرة جميلة في ذاتها ، ولكن القاصة لم تأت بها لهذا ، بل لأنها موحية في تأثيرها في سياق القصة.
فالرجل لم يسكت فحسب بل إنه إنما تعمد ذلك تعمدا وقصد إليه قصدا، برغبة منه وإرادة كالذي يغمض عينيه حتى لا يرى.
أما البطلة فلم تفعل شيئا فهي هنا ليست في مقام الفاعل بل المفعول ، لفاعل آخر هو مرض الهدوء القاتل الحارق
"أصابني مرض الهدوء القاتل ؛ حرق كل عشب الصبر داخلي.."
لم تقل آثرت الهدوء لأن في هذا اختيارا وهي لم تختره بل أصابها هو، كأنها تقول : اشهدوا أن هذا لم يكن برغبتي ، كما يوحي إسناد الفعل إلى المرض فاعلا ، وتؤكد ذلك بأنها أرادت أن تقاومه بالصبر ولكن أنى لها وقد أحرق كل عشب الصبر داخلها.
وبهذا نلحظ الفارق بين من أغمض عينيه راغبا وبين من أصابها الهدوء رغما عنها بل وعن محاولة مقاومته حتى لو كانت مقاومة سلبية عن طريق عشب الصبر بما يوحي باستعداد للحياة الجميلة في أعماقها.
ثم تنتقل البطلة من حالة المفعولية إلى حالة الفاعلية بالهروب إلى الفن والإبداع والخلق تعويضا عن الصمت الذي أصاب فم الحياة وأصابها هي أيضا وحرق ما تحمل من رغبة في الحياة والنماء.
فنتعاطف معها ونحن نسمعها تقول :
فررت إلى الطين والماء ، احترفت هروبي ، كلما صنعت نموذجا ، أثني عليه الجميع ..!!
لاحظ الإلحاح على إسناد الأفعال(فررتُ-احترفتُ-صنعتُ)
وكأنها فرحة بتوديع سلبية الحياة إلى إيجابية العمل،
وتأتي جملة: "أثنى عليه الجميع " لتعويض الصمت السابق بكلام يصدر من الجميع.
ولكن هل فعلا سيعوض الفرح الآتي بهذا الكلام(الثناء) عن الحزن الماضي من الصمت القاسي
هنا تنهض علاماتا التعجب ( !! ) بالجواب!
ولكننا سنكتشف مع بطلتنا أن ثمَّ شيئا مازالت تفتقده هي وأعمالها معا
كما نلمح من خلال هذه المناجاة :
"لكني لأدري لماذا ..؟ كلما صنعت نموذجا لطائر كان بلا أجنحة ، أو كفاً بلا أصابع ..!!
وإن هذا الشيء المفتقد ليس شيئا تكميليا بل هو أساسي وحيوي كالأجنحة للطائر ، (وما الطائر بلا أجنحة؟) والأصابع للكف(وما الكف بلا أصابع؟)
وفي هذا تمهيد فني بارعٌ لمفاجأة تدخرها قاصتنا ، وهذا التمهيد الإشاري الذكي عنصر مهم من عناصر التشويق في القصة الجيدة، وعامل أساسي من عوامل بنائها.
ولأن القصة القصية الجيدة تتسم بالتكثيف والاقتصاد فسوف نرى أن لهذه النماذج التشكيلية المنقوصة غرض في نفس قاصتنا سنكتشفه في النهاية.
وها نحن مع البطلة في مرحلة ثالثة من مراحل القصة
كانت المرحلة الأولى هي مرحلة السلبية
والثانية : فعل الاستعداد والتجريب
أما الثالثة فهي : فعل المواجهة، بعد أن اطمانت على قدرتها على المواجهة بعد طول تدريب.
"بعدما أتقنت لعبة هروبي ، قررت عمل نموذج ، هدية عيد ميلاد للذي أجبرني على هذا الهروب الجميل ..!!
بدأت في العمل "..........
وبعد الانتهاء من العمل يحين دور المفاجأة التي شوقتنا إليه وإليه تشويق:
طلبت منه أن يغمض عينيه ؛ عند المفاجأة ، أزحت الستار ..
ولا تتوقع ان تصرح القاصة أو البطلة(لا أدري هذه المرة) وإنما تترك ذلك للعنصر التالي:
ثانيا: ذكاء الحوار
- ما هذا ..؟ هذا أنا ..؟ لكن أين ..؟؟
- أين ماذا ...............؟
لاحظ أن القصة في كل ماسبق كانت تعتمد السرد للدلالة على افتقاد الحوار، ولكن بعد أن انتقمت لنفسها ولفم حياتها بالفعل الإيجابي ، لا تكتفي بطلتنا (المتكلمة) بذلك بل تعاقبه بالقول عندما اضطر لأول مرة إلى الكلام
فيأتيه منها الجواب الذي يحمل تجاهل العارف (كما يقول علماء البلاغة)
وهل يستحق أكثر من هذا؟
إنه يريد أن يقول أين الفم؟
كما لاحظ أخي القاصّ المتمكن المبدع الأستاذ حسام القاضي ببراعة حيث قال:
صنعت له تمثالاً وأغفلت عمداً أن تنحت له فماً (كناية عن صمته) عله يتنبه لهذا ..
رسالة عتاب بليغة".
صدقت يا أخي .
فإذا أضفنا إلى ذلك تجاهلها الأخير أقول إنها انتقلت من العتاب إلى تعذيبه بالحيرة بهذا الأسلوب الماكر الجميل
ثالثا: رمزية العنوان، وحيوية التجسيد : صراخ الطـــــــين ..!!
لهذا العنوان صورة موحية من جهة ودلالة رمزية من جهة أخرى
حيث تضيف القاصّة الصراخ إلى الطين والطين بطبيعته عاجز عن الكلام فكيف يصرخ إلا أن يكون هذا الصراخ صراخا معنويا يجسد معاناة
"تضغط أناملي على الطين فتشمه ببصمات حزن تفضح ما تخفيه ملامحي .."
بل هو صراخ متخيل في وهم البطلة كأنما لتنتقم من صمت البطل السابق في صورته الطينية الحالية ، أليس الطين هنا تجسيدا حيا له؟!
"أحضرت طينا ذكورياً ، أعجنه ليصبح ليناً ، كلما لانَ ، ضغطت أكثر وأكثر وأكثر ، حتى صرخ الطين ألماً ..!!
وقد أدركنا من سياق القصة أن الصراخ يرمز هنا إلى صراع يعتمل في الداخل من جراء الصمت، أما الطين فنجح في الرمز إلى مستويين
الأول : عملية الإبداع الهروبي
الثاني : المعادل الموضوعي للحياة والرجل معا. وقد رأينا كيف نجح الطين في هذا نجاها بارزا، ببعديه الفني والإنساني.
في قصة تفيض فنا وإنسانية مثل معظم قصص وروايات أديبتنا القديرة.
قاصتنا المبدعة
تقبلي تحياتي لقصتك البارعة
ودمت وأسرتنا الزاهرة بخير، وسعادة، وسناء.
مصطفى