المشاركة الأصلية كتبت بواسطة مأمون المغازي
قلم كحل أسود
للأديبة : الوردة السوداء
بين الحقيقة والوهم
بداية لابد أن أشيد بالقراءتين البارعتين لأستاذي الدكتور : سلطان الحريري ، والأستاذ القاص : محمد سامي البوهي .
قرأت هذه القصة وكأني أشاهد هذا المشهد رأي العين وأسمع الحوار في لحظة انفصال عن الواقع وهذه أول مهارة استغلتها القاصة .
الدخول والإدخال :
في هذه القصة هجوم مباشر على الحدث، ولكنه هجوم متيقن ، كانت القاصة موفقة فيه إلى حد كبير ، وقد بدأ ذلك من العنوان ( قلم كحل أسود ) ولا يمكن أن أتناول العنوان دون الغلق في هذه القصة بالتحديد حيث القلم ، اللون الأسود ، حيث كانت العلاقة الممتدة بين العنوان والغلق ليكونا معًا الإناء الذي احتوى جزئيات القصة .
القاصة في هذا العمل تتناول حالة واقعية ، سواء كانت قد عايشتها ، أو استحضرتها من واقع الحياة ، أو ربما هي قصة سيدة في محيطها ، أو زوج ذهبت الغيرة بلبه في محيطها هو الآخر .
ومن الملاحظ أن القاصة دخلت بنفس العنوان إلى المشهد الأول ليتحول العنوان إلى قصة وليس إشارة أو رمزًا :
وقفتْ أمام المرآة تكتحلْ بهدوء على ضوء أشعةٍ تتلصصْ من ثقوب النافذة ...طرقات على الباب يعقبها دخول أختها الشابة..التى تمد يدها عفويا تضيء المصباح... ينتشر الضوء ...ترى وجههاً فى المرآة..تتعجبْ..أهذا وجهها؟ كأنما نامت فى الكهف واستحالت غريبة.. وأصبح وجهها .. وجهاً قديماً تعششْ فى جانبيه الغبار..تقف أختها بجانبها تتاملها .
نلاحظ أن الشخصية المحورية في القصة ـ على الرغم من يقينها بجمالها ـ تكتفي بأشعة الشمس المتسللة عبر النافذة ، وهنا استوعبت القاصة الحدث كاملاً وكان من الممكن أن يفلت منها خيط القص ، إلا أنها تداركت ذلك حين استخدمت الحوار فأعاد هذا الحوار الدفة إلى يد القاصة ، إلا أنه تسبب في بعض الترهل ، حيث أتفق مع الأستاذ محمد البوهي وأستاذنا الكبير : سلطان الحريري في أن الحوار كان يحتاج التكثيف فقد طال ، وجاءت عباراته بشكل مسرحي كان يلزمه تشذيب لزوائده ، إلا أنه على الرغم من ذلك خدم العمل ، وخدم التنقل من حالة لحالة ، خصوصًا أن القاصة استعملته ممزوجًا بالسرد .
تنظرْ في المرآة... الجمال في وجهها ينتحرْ على سطح حزنٍ داكن مثل فراء الليل... يتفجرْ من نبع آخر في كهوف ضلوعها طيور وحشية... تفقسْ في ثنايا وجهها أفراخاً سوداء... تغرسُ مناقيرها في قلبها.... تثقبُه... فتفورُ نوافير الدم الأسود.. . يأتي صوت أختها من بعيد فتطيرُ الأفراخ :
هل تعلمين ؟ أنت أكبر منى بسبع سنوات , ولكن من يراك معي يعتقد أنك أصغر منى, أنت لا تكبرين يا أختاه!
هنا مفترق الطرق .
هنا نتبين تمامًا أن الشخصية المحورية تعيش أزمة نفسية ، وهنا أجادت القاصة في استعمال الحوار بين الشخصية المحورية واختها ، حيث لم يطل الحوار ، وإنما جاء كومضة كاشفة كانت القاصة موفقة فيها ، ولو أنها تخلت عن إغراء اللغة لها في وصف الحالة الشعورية لبلغت حد التفوق ، لكن هذا المشهد بارع ، أجادت فيه القاصة استعمال مهاراتها . وقد تبين ذلك من كونها لم تنس دور المرآة وهي الرابط بين الواقع والتاريخ ، كما نلمح من خلال المشهد حنو الأخت الصغرى على الأخت الكبرى والتي أرهقها جمالها ، لنتبين حالة إنسانية في غاية الروعة .
تضع خاتما فى إصبعها.. كل شىء يصيرْ الى غيره..انها دورة الأيام.. تبدأ رحلتها قادوساً فى ساقية الزمن... ولهذا تهطلُ فى غابة نفسها أمطار الحزن ,يعودْ صوت الأخت فيتوقف المطر:
لك عينان هما أجمل ما فى وجهك , فرعونيتان رائعتان ليت لى مثلهما!
تأخذْ قلم الكحل وتكتحلْ... العيون زجاجية...تكتحلْ بدمع العمر المسروق.. ويتشحْ ضباب المآقى بندفٍ من عسل... يغرقْ فى ليل أسود .. يعودُ صوت الأخت من جديد ,فتعودُ المرآة الضائعة من جديد:
هل تعلمين ؟ أحيانا أشعرُ بالشفقة على زوجك السابق !
ترد فى لا مبالاة وهى تكتحل :صحيح! ولماذا؟
:جمالك أفقده صوابه.
هنا بداية الانفجار المكتوم :
القاصة هنا تستجمع الخيوط وتستجمع الأدوات وتحاول تكثيف المشهد لتستعد للخروج ، إنه خروج الشخصية المحورية وخروج القاصة من حالة القص ، وهنا استحضار رائع للماضي والحاضر ، وكان الدخول إلى المشهد موفقًا من خلال الخاتم ، هذا الخاتم الذي يوحي بالامتلاك ، تمام الزينة ، الاستعداد إلى إنهاء التجمل ، الخروج من أسر المرآة ، ليأتي صوت الأخت بالذكرى ، بالألم ، بالوجع ، بالفقد .
أحيي القاصة على هذا المشهد حيث تمكنت بالفعل من أدواتها وسيطرت على القصة وحجمت تدخلها كقاصة ، كما أحييها على استخدامها لهذا التعبير ، الذي أعجب الشاعر : شاهين أبو الفتوح ( تبدأ رحلتها قادوساً فى ساقية الزمن ) كما أعجبني أيضًا ، وهنا إيحاء بالارتباط بالبيئة .
يجمدُ القلم فى يدها... المرآة تتحول الى دوائر ماء يتوسطها وجهها... وصوته يأتى صارخاً فتهتزُ الدوائر فى عنف:
أيتها الجميلة كم رجلا تعشقين؟
هل تقنعُ أسطورة الجمال برجل واحد؟
تمتدُ يداه من وسط الدوائر.. تسحبُ عنقها.. وهو يصرخُ فى هياج:
كم أكره جمالك!
كم عدد عشاقك يا فاتنة؟
أخبرينى يا أسطورة الجمال كم عددهم؟
ويتسلل صوتها ضعيفا مختنقا: اتركنى أنت مجنون.. مجنون!.
ويضيع الصوت.. ويترسب صمتها فى القاع... تغمرها طحالب ميتة.. تفكر.. تحفرُ صوتا فى الماء.. وتنسى.. ويندلقُ الهذيان .. تصطف الهوامش أمام غبار المرآة وتطالبها بالمشهد ذاته... تكنسها ... تنفض رأسها فى عنف.. وتضع قلم الكحل:
هنا التقاء الحقيقة بالهذيان :
هنا قصة تامة العناصر ، ولكنها مترتبة على ما سبق مرتبطة به ، هنا تلعب الكاتبة على الوتر النفسي ، والضغط العصبي ، لتنطلق حالات الاسترجاع ، تهجم على الحاضر ، حالة القيد الذي تعيشه الشخصية المحورية ، ومرة أخرى الألم ، الوجع ، الفقد ، وعلى الرغم من أن القاصة سبق ولعبت على هذا الوتر ، إلا أنها هنا قامت بتنميته بطريقة مكثفة جميلة تعوض الانفلاتات السابقة لتلعب كل العناصر دورها :
الصوت
اللون
الضوء
الحركة
في مزج مع :
الحاضر
الماضي
المعاناة
حالة التذكر ، أو ما يمكن أن أسميه بالبعث ، وهنا تبرز شخصية الأخت أكثر .
هنا تلعب القاصة ببراعة بالتشكيل والتخييل لتدخل بنا إلى حالة درامية خيالية ، وظفت فيها الخيال لخدمة الواقع ، فقد تمكنت من نقل الواقع ( المسرح الزمني والمكاني ) من حالته الواقعية إلى حالة خيالية لتجد إمكانات أكثر تحرر حيث تلعب المرآة دورها الذي أطالت القاصة في التمهيد له ، فلم تعد المرآة مرآة ، وإنما هي الذكريات التي تحولت إلى حقائق واقعة في لحظة القص لتجتمع الآلام .
هيا لقد تأخرتْ .
تتناول حقيبة العمل والنظارة السوداء..وتمد يدها لتقفل ضوء الغرفة .. فتجد أنها نسيتْ أصابعها على قلم الكحل الأسود.
التخلص :
هذا غلق جيد حيث النقلة من حالة المرآة والانعكاسات إلى الحقيقة والواقع ، وهنا أداء رائع ، سواء جاء بقصد أو غير قصد ( وتمد يدها لتقفل ضوء الغرفة ) لقد لبست النظارة السوداء لتخفي عينيها ، تخفي آلامها ، وتمد يدها لتطفئ ضوء الغرفة ، لاحظ أن التي أشعلته كانت الأخت ، التي قامت بالتذكير ونبش الجرح ، وهنا الشخصية المحورية هي التي تقوم بالتخلص فهي التي تظلم المكان ، تطفئ ذكرياتها ، تواري جمالها ، هذا الجمال الذي أوقعها فيما هي فيه .
وتغلق الكاتبة نهائيًا ( نسيت أصابعها على قلم الكحل الأسود ) لتفتح القصة من جديد .
في هذه القصة :
تناولت القاصة قضية اجتماعية نفسية ، إنها المرأة فاتنة الجمال في مجتمع لا يتعامل مع المرأة إلا على أنها مثار الشهوة ومحلها ، ليكون الزوج هو الضحية ، ولكن ، هل هو المسؤول الوحيد عما آل إليه حاله من فقد العقل ؟!
لا أعتقد ؛ فقد يبلغ الحال بالمرأة الجميلة إلى تجاوز مراحل الدل ( الدلع ) بجمالها على الزوج إلى الإثارة ، إلى التشكيك ، لتشارك المجتمع الجائع في الضغط على الزوج ليتحول الشك إلى يقين في مخيلته ، فكم من امرأة تشعر زوجها أنه غير قاد عن إشباع حاجتها للشعور بجمالها ، فيقع فريسة لفكرة أن أكثر من عاشق يعيش في قلب حبيبته وذاكرتها ، يمدح جمالها وينهل ، منه ، وهنا ألمح أن القاصة لم تبرئ شخصيتها الرئيسة ، وإنما تضعها في دائرة الاتهام .
القاصة : الوردة السوداء
لقد أثرت بقصتك هذه العديد من الحالات النفسية والاجتماعية التي تناولها العديد من الباحثين بالداسة ، والتي لا ينتهي القول فيها .
بقي أن أقول: إن كل ما ورد في هذه القراءة رأي لا يقلل أبدًا من براعتكِ وإبداعكِ .
مودتي وتقديري
مأمون