الأخوة الأكارم رواد مدرسة الواحة
منشغلة أنا كثيرا بموضوع تفعيلة البسيط الثالثة وهل من الصواب خبنها أو طيها أم أنه يتوجب الأتيان بها سليمة من عموم الزحاف؟
لي أبيات عقبت بها مرة على أحدى الصديقات في الواحة هنا قلت فيها :
وزعت شوقي على الأحباب فاقتسموا** حبا تمكن في قلبي ووجداني
وحاز واحدهم حبا فقسمه ** على البرية أقصاهم مع الداني
((فسل صغيرهم وسل كبيرهم)) ** إن لم ينل وافرا فالفكر عنواني
وقد انتــُقِـد البيت على أساس أن التفعيلة الثالثة مزحوفة
حقيقة أثير موضوع كنت قد تناسيته لتضارب الأراء حوله ولكني أثيره الآن لأني اكتشفت أنني قد أتناسى ولكني لا أنسى وأريد الآن طرح هذا الموضوع على مائدة النقاش:
لتقريب الفكر أكثر لمن (قد) يستغلق الموضوع عليهم أطرح مثالا آخر
لي قصيدة ( وعدا سأبكيك ِ)
سأطرحها هنا مرتين مرة بخبن ( مستفعلن) أو طيها وفي الثانية بدون أي زحاف ، ثم سأعرض عليكم بعض الآراء حول هذه القضية:
في انتظار مزيدا منها .
القصيدة قبل التعديل:
عفا عليكِ زمانُ الوصل فانقطعـتْ
بكِ الدروبُ وحالتْ بيـن لُقيـاك ِ
وأظلم الكونُ بالأحبابِ فاضطرمتْ
نارٌ تؤجّجُها في الـروحِ ذكـراك ِ
أختاهُ لمّـا فقدنـاك ِ استبـد بنـا
حزنٌ وقطّـع أحشانـا بأشـواك ِ
سودُ الليالي استوى في القلب حالكُها
أقـام مأتمهـا الشجـيّ ينـعـاك ِ
بكت عليك ِ عيـونٌ جـاد وابلهـا
وكـان كحّلهـا نـورُ محـيـاك ِ
إنسان عيني َ بعد البين حِيطَ بِـه ِِِ
عز ّ الهجوع ُ فطال الوجدُ إدراكي
كم احتضـرتُ بأحلامـي فأرّقنـي
سرّ تكشّـف إذ فارقـت ِ دنيـاك ِ
والآن همسُـك لا يفتـأ يوقِظنـي
دوماً يسائلني عن حـال ِ أبنـاك ِ
لا تسأليني عـن الأبنـاءِ يَفجعنـي
يتـمٌ تجلببهـم حنّـوا لـمـرآك ِ
أغضّ طرفيَ عنهم حيثُ أسمعهـم
يبكونَ فقدكِ بالحسراتِ.. رحمـاك ِ
صغيرهُم وجـلا يعذلـك انتبهـي
حُبًّا أجَيبِي حَزِينَ الْقَلْـب ِ نَـادَاك ِ
أقَسْوة ٌ مِنك ِ أنْ قرّرت ِ راحلـة ً
صداً وهجراً لمن مـازال يهـواك ِ
وعد ٌ لئن عدت ِ يا أمـاه أقطعـه ُ
ألاّ أعـودَ لذنـب ٍالأمْــسِ آذاكِ ِ
أركانُ منزلنا الخـاوي يـرنّ بهـا
صدى ً لصوتكِ ما أعذبَ نجـواك ِ
فلْتَرجعي ولْتُعيدي بسمـةً رحلـت
ولْترحمي عبرةَ المستعبر ِ الباكـي
الدّهر فرّق أحبابـاٌ كـم اجتمعـوا
الصبـر جمّلهـم حتـى فقدنـاك ِ
فالله أدعوه واهي القلـب يمسحُـه
صبراً جميلاً كمـا كـان تغشّـاكِ
يظلّ طيفك ِ في الآفـاق ِ ممتثـلا ً
يهزّ أوتـارَ روح ٍ ليـس تنسـاك ِ
وعداً سأبكيك ِ طول ِ الدهر أزفرُها
شهقاتُ صدري لتعلو حيث تلقـاك ِ
أسكنـكِ الله جنـاتَ الخلـودِ لمـا
بالخلقِ والدينِ والجـودِ عرفنـاك
وهنا بعد التعديل:
عَفَا عَليْكِ زَمَانُ الوَصْلِ فَانقَطَعـتْ
بِكِ الدّرُوبُ وَحَالَتْ بَيْـنَ لُقيـاك ِ
وَأظلَمَ الكوْنُ بالأحْبَابِ فاضْطَرَمَتْ
نَارٌ تؤجّجُها في الرّوح ِ ذكْـرَاك ِ
أخْتَاهُ لمّـا فَقَدْنَـاك ِ اسْتَبَـدّ بنَـا
حُزْنٌ وَقطّـعَ أحْشَانَـا بأشْـوَاك ِ
سُودُ الليَالي اسْتوَى فِي القلْبِ حَالِكُها
أقَـام َمَأتَمَهَـا الْمَكلُـومُ ينْـعَـاك ِ
بكَتْ عليْك ِ عُيُـونٌ جَـادَ وَابلُهَـا
وَكَـانَ كَحّلهَـا نُـوراً مُحَـيّـاك ِ
إنْسَانُ عَينِي َ بَعْدَ البَيْنِ حِيطَ بِـه ِ
عَز ّ الهُجُوع ُ فطَالَ الوَجْدُ إدْرَاكِي
كَم احْتضَـرْتُ بأحَلامِـي فَأرّقنِـي
سِرٌّ تَكَشّـفَ إِذْ فارَقـت ِ دُنيَـاك ِ
وَالآنَ هَمْسُـكِ لا يَنْفَـكُّ يُوقِظنِـي
دَوْماً يُسَائِلُنِي عَنْ حَـال ِ أبْنـاك ِ
لا تسْألينِي عَـنْ الأبنـاءِ يَفجَعُنَـي
يُتـمٌ تَجَلْبَبَهُـم حَنّـوا لِـمَـرْآك ِ
أغُضّ طَْرفيَ عنهُمْ حَيْثُ أسْمَعَهُـمْ
يبْكونَ فقدكِ بالحَسَْراتِ.. رُحْمَـاك ِ
صَغِيرُهُمْ وَجِلاً يدْعُـوكِ فانتبهِـي
حُبًّا أجِيبِي حَزِينَ القلْـب ِ نَـادَاك ِ
أقسْوَة ٌ مِنْك ِ أنْ قَرّرْت ِ رَاحِلَـة ً
صَداً وَهَجْرَاً لِمَنْ مَـازَالَ يَهْـوَاك ِ
وَعْد ٌ لئِنْ عَدْت ِ يَا أمّـاهُ أقطَعَـه ُ
ألاّ أَعُـودَ لِذنْـب ٍالأمْــسِ آذاكِِ
أرْكَانُ مَنْزِلِنا الْخَـاوِي يَـرِنّ بِهَـا
صَدَى ً لِصَوتِكِ لا عَذْبٌ كنجْـوَاك ِ
فلْتَرجعي ولْتُعيدِي بسْمـةً رَحَلَـتْ
ولْترْحَمِي عَبْرَةَ المُسْتعبِر ِ البَاكِـي
الدّهْرُ فَرّقَ أحْبَابـاٌ كـم اجْتمعُـوا
الصَّبْـرُ جَمّلَهُـمْ حَتّـى فَقدْنَـاك ِ
فَالله َأدْعُوه ُوَاهِي القلْـبَ يَمْسَحُـهُ
صَبْراً جَمِيلا ًكمَـا دَوْمـاً تغشّـاكِ
يظَلّ طيفُك ِ فِي الآفَـاق ِ ممْتثِـلا
يَهزّ أوْتـارَ رُوح ٍ لَيْـسَ تَنْسَـاك ِ
وَعْداً سَأبكيك ِ طول ِ الدَّهْرِ أزفِرُهَا
شهقاتُ صَدْرِي لتعلُو حَيْثُ تلقَـاك ِ
أسْكنَـكِ الله جَنّـاتَ الخلُـودِ لمَـا
بالخُلق ِوالدّين ِوَالتقـوَىِ عَرَفنـاكِ
بالنسبة لي كنت مقتنعة بأن الخبن والطي جائزان مادامت التفعيلة (مستفعلن) ولكن استاذ بندر الصاعدي يرى أن هذا الزحاف شاذ لعدم وروده في الشعر العرب إلا نادرا جدا .
سألت الأستاذ محمود مرعي فقال:
ما دامت مستفعلن فهي تقبل الزحاف
لكن الثالثة في البسيط تحديدا تدخل ولكن على كره
واليك مثال
لَقَدْ خَلَتْ حِقَبٌ صُروفُها عَجَبٌ *** فَأحْدَثَتْ عِبَرًا وَأعْقَبَتْ دُوَلا
ويدخل الطي وهذا مثال
اِرْتَحَلوا غُدْوَةً فَانْطَلَقوا بَكَرًا ***فِي زُمَرٍ مِنْهُمُ يَتْبَعُها زُمَرُ
ويدخل الخبل على مستفعلن
وهذا مثال يورده اغلب العروضيين
وزعموا أنهم لَقِيَهُمْ رَجُلٌ *** فَأَخَذوا مالَهُ وَضَرَبوا عُنُقَهْ
هذا كله في البسيط
لكن كما قلت مستفعلن الثانية والرابعة في البيت
أي التفعيلة الثالثة في الصدر والتفعيلة الثالثة في العجز
فمن الافضل أن تأتي صحيحة لان البسيط موسيقي
وهذا رأي آخر لأحد المتمكنين من العروض وأريد رأيكم حوله :
يقول الأستاذ حبيب محمود :
هناك أمرين يُمكن أن نثير التحاور حولهما لإيجاد صيغة جادة للتعاطي مع الاختلافات الموسيقية في بحر البسيط خصوصاً، والبحور الأخرى على وجه عام.
الأمر الأول: الأخذ بالنادر أو عدم الأخذ به
الأمر الثاني: هو تداخل البحور (*)
وكلا الأمرين جدير بالنقاش، ولهذا سأفرد لهذين الأمرين هذا التعقيب، فأرجو أن أكون مفيداً:
الأخذ بالنادر
من السهل القول: "لا يؤخذ بالنادر"، فهذه المقولة، في ذاتها قاعدة تنحسم أمامها كثيرٌ من الإشكالات: في المنطق، والفلسفة، والفقه، وعلوم الحديث، وسائر العلوم الإنسانية وحتى التطبيقية. والسائد في العلوم المقعّدة أن يتجنب الاستدلاليون ما شذّ وندر من القواعد النظرية والاستعمالات التطبيقية، على الرغم من اعترافهم بأن لكل قاعدة شواذَّ..!!
ولكن المسألة تختلف كثيراً في أمر الشعر والفن. إن "القاعدة" في الفنّ تتلخص في ألا قداسة لقاعدة..! وأن ما يمكن تقعيده في الشعر هو فعل الشعر نفسه لا قواعده المدوّنة..! أي أن الممارسة الشعرية التي يصنعها الشعراء هي التي تصنع القاعدة، حتى في حال وجود قواعد ناجزة..!
وما دمنا نتحدث عن العروض تحديداً، فيمكننا الالتفات إلى هذه الحقيقة من خلال بعض الإشارات، التي منها:
1ـ ثلاثة أرباع قواعد العروض ليس لها وجود فعلي في الشعر يؤخذ به.
2ـ الشعراء ـ منذ الخليل وحتى الآن ـ يستخدمون ما يقل عن 30% من أشكال البحور ويهملون الباقي، على الرغم من أنه موثق في تصانيف العروض. ونحن عادة ما نقرأ أنواعاً من الطويل والبسيط والكامل والوافر والمتقارب وغيرها من البحور؛ في حين أن هناك أنواعاً أخرى من هذه البحور لا يهتمّ بها الشعراء.
3 ـ هناك أنواع من البحور غير محترمة ـ علمياً ـ صنعت لنفسها وجوداً مدهشاً في الشعر العربي، كالمتدارك الذي لا يعترف به قدماء العروضيين. وهذا البحر هو أحد الأنساق الموسيقية الرئيسة في الشعر الحديث..!
هذه الإشارات تضعنا أمام مسألة في غاية الحساسية؛ هي المواجهة العملية بين القاعدة والذائقة.فالقاعدة ـ في العروض ـ هي خلاصة أفعال شعرية سابقة لعلم العروض، وقد تمّ تصنيفها وتوثيقها بناءً على ما قدّمه شعراء العربية في نصوصهم.
أما الذائقة فهي قابلية الشعراء للتعاطي مع القاعدة والامتثال لها، والاحتجاج بها، ومن ثم تطبيقها في النصوص الشعرية.
ـ الشعراء استخدموا بحوراً أقرتها قواعد العروض. استخدموا: الطويل والبسيط والكامل والوافر والمتقارب والمنسرح.. ووو إلخ.
ـ واستخدموا الضرورات الشعرية، والجوازات الخاصة بهم، ومارسوا إجراءات فنية تقنية..
ـ واستفادوا من نظرية الزحافات بوصفها خياراً، فاستخدموا الزحافات بما يناسب إجراءاتهم الفنية..
وما تمخّضت عنه الاستخدامات العروضية في الشعر؛ هو إقرار كثير من القواعد العروضية في الذائقة، وأيضاً استبعاد كثير من القواعد في الوقت عينه..!والإقرار والاستبعاد ليس عملاً مزاجياً خاصاً بشاعر من الشعراء.. فالذائقة لا تنشأ كعمل فردي، بل تتراكم بتكاثر الاستخدام
. إن الذائقة هي الحاسة الفنية و "التجارب الخاصة وما قد تتأثر به في بيئاتنا قد يساعد على نمو هذه الحاسة وإرهافها، كما يقد يعمل على انكماشها وذبولها" (1).
بمعنى: إننا قد نسمع أغنية سيئة فننفر منها، غير أنها ستتحول إلى أغنية جميلة بعد تكرار سماعها، في حين أنها ستبقى بلا أهمية لو تجنبنا تكرار سماعها. وهذا عينه هو ما يحدث مع الذائقة الفردية والجماعية، في موضوع قواعد العروض وتطبيقها في الشعر.
إن الخبن زحاف مفرد. هذا ما تقوله القاعدة العروضية. أي أنه خيارٌ أمام الشاعر، ويجوز له استخدامه أوتجنبه، وحين يدخل الخبن على تفعيلة حرفها الثاني ساكنٌ فإنه يغيّر شكلها:
مستفعلن: متفعلن: مفاعلن.
فاعلن: فعَلن.
فاعلاتن: فعَلاتن.
والقاعدة تقول: إن الخبن يجوز في بعض البحور، منها بحر البسيط، وهو يجوز في التفاعيل الثلاث في الصدر والعجز:
مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن
فتتغير إلى:
مفاعلن فعلن مفاعلن فعَلن
وأمر التغيير مرهون بخيار الشاعر. أي أن القاعدة ترخّص له هذا بالتغيير ولا تلزمه. هذا ما تقوله القاعدة.
أما الذائقة فلها كلمة أخرى. وخلاصة هذه الكلمة هي أن الشاعر يجوز له استخدام الخبن في تفعيلتين فقط من كل شطر:
مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن
فتتحول إلى
مفاعلن فعَلن مستفعلن فعلن.
لماذا..؟
الإجابة هي: أن الشعراء العرب كرّسوا استخدام الخبن في تفعيلتين، وتجنبوا استخدامه في التفعيلة الثالثة، فمالت الحاسة الفنية نحو الجمال وتجنبت الممكن في القاعدة..!
ما معنى هذا..؟
معنى هذا:
أن استخدام الخبن في التفعيلة الثالثة ممكن حسب القاعدة العروضية.
لكن عدم استخدامه في التفعيلة الثالثة جميل.
هذا يعني أن هناك فرقاً بين الجميل والممكن..!
هذا ينطبق على الشواهد التي أتت بها الخيزران من مصدرها، فالطيّ (مستفعلن: مفتعلن) والخبل (مستفعلن: مفَعلن) زحافات ممكنة، لكن الشعراء لم يستسيغوا استخدامهما، وبالتالي سقطت من الذائقة، وبقيت مجرد قواعد..!
(1) موسيقى الشعر: د. إبراهيم أنيس، ص: 11.
أخواني / أساتذتي
أنتظر مداخلاتكم بشوق ورأيكم في هذا الكلام فلا تبخلوا علينا
(*) أثير موضوع آخر في نفس الصفحة حول تداخل البحور وأرغب في طرحه هنا أيضا لكني أرغب قبل هذا في الانتهاء من الموضوع الأساسي (ثالثة البسيط)