رسالة من سمكة كنعانية
ها هي رسالتي الأولى إليك ، بعد مرور كل هذه السنوات بكل ما احتفَظَتْ به من صور الأمكنة فهذا هو جل قدرتها ، فهي تفشل في حمل المكان لكنها تستطيع حمل الصور. ستصلك رسالتي هذه وأدري ، رغم المسافة ، ورغم الجدران وأعلَمُ ، أنْ لا جدران تقوى على منعها من الوصول إليك، إلى حبك وثورتك العارمة ، إلى هدوئك وعتوِك ، إلى جبروتك وانكساراتك .
هذا ما كنت أردده طيلة الوقت وها أنا أقوله الآن ، فهل تعرف ماذا كان يسألني عندما يسمع أصداء الهدير في أعماقي؟ كان يقول مستغربا :
_ كيف لمذاق الملح أن يسكنك وأنت ما تذوقته أبدا؟!
وكان يقول :
_ كيف لتلك الروائح أن تعشش في ذاكرتك وهي لم تعيها ؟ !
كنت أرد بأن ذاكرتي هي بعض منه ،و هي أنا أخرى تنطبق على مقاساتي ، فيكونني وأكونه .
وهي بذرة غرسها أسلافي فأنبتت طلوعا ، أما الجذور فقد امتدت وامتدت وطالت واستدقت حتى لامست جلدي، فاخترقت مسامه وصولا إلى روحي فصارت عشقا .
كانت كلماتي تسقط على روحه حجارة ، ولم أكن أغضب ، بل كنت أرثي له . كيف لمثله أن يفهم؟
كيف لمثله أن يعي ذاكرة هي ذرات رمال حملت كل منها خليطا من الأمكنة والأزمنة والماء والملح والروائح ، ثم حملتها الرياح إليّ وحدي هنا.
أنظر إليه طويلا فيرتبك ، ثم كمن يدافع عن نفسه ينبري بلسانه المثقف يحلل التاريخ ويشرح الجغرافيا ويقول :
_ لقد جاء الفلسطينيون من . تقاطعه الذاكرة وتكمل:
_ أما آن لك أن تفهم ؟ أنا سمكة كنعانية قذفها إعصار ما ، فعلقت في شباك ما في حيز خارج الأمكنة والأزمنة ،فلا هي قادرة على العودة إلى بحرها ، ولا هي ترضى ببحار الدنيا عنه بديلا .
ها أنا ما زلت عالقة منذ بدء التكوين ، تكويني الذي ينتمي إلى مكان لا يشبه الأمكنة ، وزمان انتُزِع من شريط الأزمنة .
عالقة أنا هنا يا صديقي ولا أعرف كيف أفسر لك ذلك . أعرفك ذكيا ، وأدرك اهتمامك بي ، واهتمامي بك أيضا ، وأعرف أنك ستعذرني ، فقلبي هناك ، وأنفاسي تغوص عميقا ترقب ميلاد الموجات الهادرة وهي تقبل على الشاطىء بعنفوان الجياد الأصيلة تخب خببا ، هي تعتقد أنها ستنازل هذه البيوت البيضاء ذات الجدران الرخصة التي تقف نهارها وليلها تغازل الماء ، لكن هذه الموجات ما أن تصل إلى جدراننا الرقيقة حتى تتكسر عند أقدامها حبا وتحنانا.
_ كيف وماذا؟ لا تسلني أيها الصديق فالأشياءلا تفسر نفسها . اقبلها كما هي.
رمقها الرجل مبتسما للمرة الأولى :
_ كي أفهمك ، يجب أن أكونك .
ابتسمت المرأة ابتسامة غريبة وهي تنظر إلى الزرقة الممتدة تحتها . وأكمل :
_لكي أكونك لابد من القيام بأشياء تحلمين بها وتحول ضباب الكلمات إلى سطوع الحقيقة .
_نعم . نعم . قالتها بصوت بدا له متهدجا للمرة الأولى منذ عرفها .
فتحت حقيبتها الصغيرة وتناولت منها قارورة عطر أفرغت محتوياتها في الفضاء من عل حيث تجلس ، ثم طوت الرسالة طيات متعددة ودفعتها داخل القارورة ، ثم أغلقتها بإحكام. قبلتها ، ورفعت ذراعها تهم بإلقائها لكنه كان أسرع منها ، فقد مد ذراعه وأمسك يدها والقارورة ، وبحركة دائرية قوية انفلتت القارورة بعيدا لتتلقفها أمواج بحرها رغم اختلاف المكان .
___________
حنان الأغا