هو علم بارز في حركة الإسلام ، وهو طود شامخ من العلم والفقه العميق ، وله النصيب العالي في علم النفوس والحال مع الله تعالى ، ولست هنا لأذكر ترجمته رحمه الله .
تسابقت وفود الدعاة إلى النهل من علمه ، وما دوّن لنا منها ، وروج لها بشكل كبير ، وباتت أراه حجة يستدل بها للحسم بين الآراء ، لما فيها من رصانة ووعي بمقاصد الشرع الحكيم .
ووجد الكثير من الدعاة تأصيلا لكثير من المسائل ذات الاهتمام عندهم ! ، وربما توسع البعض ببعض مبالغة ، وأقام الكثير من المعارك الفكرية ، وما ثمة ساحة لصليل الأفكار لو وعى .
واليوم تمر الأمة الإسلامية بحال عصيب ، يحتاج إلى الكثير من الآليات التي تنهض به ، في جمع كثير من وسائل الاستدراك الحضاري لهذه الأمة المباركة .
كان شيخ الإسلام ـ الذي ينهل من علمه الجميع ـ رجلا مجاهدا متحركا وفق واجب الوقت ، لا يهاب ، ولا يجامل ، وكان حال الأمة في درجات من الضعف عميقة ، فكان لها رحمه الله تعالى .
وأجد نفسي استلهم بعض ملامح مواقفه الشريفة حيال أزمات الأمة ، من خلال موقفه في وجه ( التتار ) ، ولست هنا ككاتب تاريخي يعنى بالتدقيق والدقة ، بل اعتمد كتابا واحدا وهو : ( الحافظ أحمد بن تيمية ) لأبي الحسن الندوي رحمه الله ، وهو الثقة .
وهذه بعض الفقرات تروي خبر شيخ الإسلام في الباب الذي ذكرت :
... واجتمع عنده جماعة من الفضلاء وبحثوا في الحموية وناقشوه في أماكن فيها ، فأجاب عنهم بما أسكتهم بعد كلام كثير ، ثم ذهب الشيخ تقي الدين وقد تعهدت الأمور ، وسكنت الأحوال .
وكان من المتوقع جدا أن تكون هذه القصة قد امتدت وثارت هناك ضجة أخرى ، ولكن حدث في الوقت نفسه من الأحوال ما لم يسمح بالخوض في الخلافات والمناقشات العقائدية ، أعني بذلك غارة التتر ، برز فيها ابن تيمية كمجاهد عظيم ، وقائد عام .
في 27 ربيع الأول ـ من عام 699 هـ ـ قامت المبارزة بين " قازان " ـ التتري ـ والسلطان ، فحارب المسلمون بشجاعة نادرة ، ولكنهم هزموا ، فتوجهت عساكر السلطان إلى مصر راجعة ، والتجأ أهل دمشق إلى دمشق وقد عم الخوف في البلد من انسحاب الجيوش المصرية وخطر اقتحام التتر في دمشق منتصرين غالبين فكان كبار العلماء وأعيان الناس يغادرون دمشق إلى مصر ، فالقاضي الشافعي والقاضي المالكي وبعض العلماء المشهورين ، ووالي البلد والمحتسب وغيرهم من التجار والعامة كانوا قد غادروا البلد ...........
اجتمع ابن تيمية بأعيان البلد للتفكير في الوضع الحاضر واتفقوا على المسير إلى قازان لتقيه في وفد من العلماء وأصحابهم ، وذلك لأخذ الأمان منه لأهل دمشق .
ففي يوم 3 ربيع الآخر سنة 699 هـ اجتمع ممثل دمشق وسفير الإسلام ابن تيمية طاغية التتر ، قال الشيخ كمال الدين بن الأنجا الذي رافق ابن تيمية ، وحضر معه إلى قازان :
كنت حاضرا مع الشيخ فجعل يحدث السلطان بقول الله ورسوله في العدل وغيره ويرفع صوته على السلطان ويقرب منه في أثناء حديثه ، حتى لقد قرب أن يلاصق ركبته ركبة السلطان ، والسلطان مع ذلك مقبل عليه بكلية مصغ لما يقول ، شاخص إليه لا يعرض عنه ، وأن السلطان من شدة ما أوقع الله له في قلبه من المحبة والهيبة ، سأل من هذا الشيخ ؟ فإني لم أر مثله ، ولا أثبت قلبا منه ، ولا أوقع لحديثه في قلبي ، ولا رأيتني أعظم انقيادا لأحد منه ، فأخبر بحاله وما هو عليه من العلم والعمل ، فقال الشيخ للترجمان ، قل للقازان : " أنت تزعم أنك مسلم ، ومعك قاض وإمام وشيخ ومؤذن على ما بلغنا فغزوتنا ، وأبو وجدك كانا كافرين ، وما عملا الذي عملت ، عاهدا فوفيا ، وأنت عاهدت فغدرت ، وقلت فما وفيت وجرت .
ثم خرج من بين يديه مكرما معززا بحسن نيته الصالحة من بذل نفسه في طلب حق دماء المسلمين ، وبلّغه الله ما أراده ، وكان أيضا سببا لتخليص غالب أسارى المسلمين من أيديهم ، وردهم على أهلهم وحفظ حريمتهم ، وهذا من أعظم الشجاعة والثبات ، وقوة التجاسر .
وكان يقول : لن يخاف الرجل غير الله إلا لمرض في قلبه ، فإن رجلاً شكا إلى أحمد بن حنبل خوفه من بعض الولاة ، فقال : لو صححت لم تخف أحداً ، أي خوفك من أجل زوال الصحة في قلبك .
وأخبر قاضي القضاة أبو العباس : أنهم لما حضروا مجلس غازان ، قدم لهم طعاما فأكلوا منه ، إلا ابن تيمية ، فقيل لم لا تأكل ، فقال كيف آكل من طعامك ، وكله مما نهب من أغنام الناس وطبختموه بما قطعتم من أشجار الناس ، ثم إن غازان طلب منه الدعاء ، فقال في دعائه :
اللهم إن كنت تعلم أنه إنما قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، وجاهد في سبيلك ، فإن تؤيده وتنصره ، وإن كان لمملك والدنيا ، والتكاثر فإن تفعل به ، وتصنع ، فكان يدعو عليه ، وغازان يؤمن على دعائه ، ونحن نجمع ثيابنا خوفا أن يقتل فيطرطس بدمه ، ثم لما خرجنا قلت له : كدت تهلكنا معك ، ونحن ما نصحبك من هنا ، فقال : وأنا لا أصحبكم ، فانطلقنا عصبة ، وتأخر فتسامعت به الخوانين والأمراء ، فأتوه من كل فج عميق ، وصاروا يتلاحقون به ليتبركوا برؤيته ، فما وصل إلا في نحو ثلاث مائة فارس في ركابه ، وأما نحن فخرج علينا جماعة فجردونا .
وإن كان أهل دمشق قد حصلوا على وثيقة الأمن من سلطان التتر وأعلن ذلك في دمشق غير أن التتر كانوا مستمرين في السلب والنهب ونقض القانون والوحشية في نواحي دمشق وضواحيها .... رأى ابن تيمية هذه الأحوال من النهب والقتل والأسر فلم يصبر عليها وخرج في جماعة من أصحابه يوم 25 ربيع الآخر للاجتماع بملك التتر ( قازان ) مرة أخرى وانتظره يومين ولكن لم يتح له اللقاء وحجبه عنه وزيره .....
قال ابن كثير : " وكانت الطرقات لا يُرى بها أحد إلا القليل ، والجامع لا يصلي فيه أحد إلا اليسير ، ويوم الجمعة لا يتكامل فيه الصف الأول وما بعده إلا بجهد جهيد ، ومن خرج من منزله في ضرورة يخرج بثياب زيهم ثم يعود سريعا ، ويظن أنه لا يعود إلى أهله . " .
توجه قازان إلى العراق وترك عاملا له عليها ، الذي استمر في النهب والسطو ، وخرب قرى كثيرة وسبى عددا كبيرا من أطفال المسلمين ، وجبى أموالا طائلة من دمشق ، فخرج له ابن تيمية واجتمع به في فكاك من كان معه من أسارى المسلمين وغيرهم من الذميين الشاميين .
وفي تاسع رجب وصل الخبر بخروج الجيوش المصرية والسلطان محمد بن قلاؤون ونودي بحفظ أسوار البلدة وأبوابها ، فاجتمع الناس على الأسوار لحفظ البلاد ، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يدور كل ليلة على الأسوار يحرض الناس على الصبر والقتال ويتلو عليهم آيات الجهاد والرباط .
وفي عام 700 هـ تناقلت الأخبار بتحرك التتر لدمشق ، وتحرك الجيش المصري لمقاتلتهم ، لكن ما لبث الناس أن سمعوا بخبر عودة الجيش المصري ، فطاشت عقولهم ، وتعالت الصيحات خوفا وفزعا ، وانطلق شيخ الإسلام لنائب الشام في المرج ، ونصحه بأن يركب البريد لتحريض السلطان للخروج إلى الشام ومقاتلة التتر ، وقابل السلطان في مصر ، وحرضه واقنعه لمقابلة التتر ، ورجع ابن تيمية يبشر الناس بقتال التتر .
وقد تكلم الناس في حكم قتال هؤلاء التتر من أي قبيل هو ، وتصدى ابن تيمية لتأصيل الجواب . وكان يقول : لو رأيتموني في صف التتر مواليا لهم وعلى رأسي مصحف فاقتلوني ، فتشجع الناس في قتال التتر وقويت قلوبهم .
وفي ليلة الجمعة التاسع والعشرين من شعبان ثبتت رؤية هلال رمضان فبدأ الناس يستعدون لصلاة التراويح وقد استبشروا بشهر رمضان وبركته ، ورأوا يوم السبت المآذن سوداء وغبرة من ناحية العسكر والعدو ، فغلب على الظن أن الوقعة اليوم ، فابتهلوا إلى الله عز وجل بالدعاء في المساجد والبلد ، وطلع النساء والصغار على الأسطحة ، وكشفوا رءوسهم .
وفي ثاني رمضان اصطف الجيشان ، وأفتى ابن تيمية بالفطر مدة القتال ، وأفطر هو أيضا ، ولما بدأت الحرب ثبت السلطان ثباتا عظيما ، وأمر السلطان جواده فقيّد حتى لا يهرب ، وبايع الله تعالى في ذلك الموقف ، وجرت خطوب عظيمة ، وقتل جماعة من سادات الأمراء يومئذ ، ولكن نزل نصر الله على المسلمين واستظهروا على التتر ، وقتل منهم ما لا يعلمه إلا الله .
وفي يوم الاثنين رابع رمضان دخل ابن تيمية في دمشق وفرح به الناس ودعوا له وهنئوه بما يسر الله على يديه من الخير ، ودخل السلطان إلى دمشق يوم الثلاثاء خامس رمضان ، ومعه الخليفة والعساكر منتصرين فرحين ، واستقرت الخواطر ، وذهب اليأس وطابت قلوب الناس .
كان ابن تيمية في تحريضه للسلطان يقول : إنكم في هذه الكرة منصورون ، فيقول له الأمراء : قل إن شاء الله ، فيقول إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا ، ويقول : نحن مظلومون ، والمظلوم منصور : ( ومن بغي عليه لينصرنه الله ) ، ولذلك فإن النصر مؤكد ، والفتح قريب ، و إن وعد الله كان مفعولا .