ها قد مضى رمضان الكريم وتبعه العيد المبارك فالحمد لله الذي بلغنا رمضان وأكرمنا بطاعته في هذا الشهر الفضيل من صيام وقيام وصدقة ونرجو الله تعالى أن يتقبل منا أحسن ما عملنا وأن يعيد علينا رمضان أعواماً عديدة والأمة كلها بخير والأوطان من الرجس محررة والنفوس من الدنس طاهرة.
ولعله قد آن أن نقف وقفة جادة وصادقة مع معضلة كل عام مما يحدث من اختلاف الرؤيا واختلاف بداية شهر الصوم ونهايته مما يورث الخلاف ويولد المشكلات المختلفة للمسلمين في بلاد الإسلام عامة وبلاد الاغتراب خاصة. إن ما حدث هذا العام من اختلاف أصر الجل على أن يكون في كل عام من اختلاف الفتوى ببدء شهر رمضان فنرى الأقطار الإسلامية وقد انقسمت إلى فرق وأحزاب كل حزب لما وافق مصلحتهم ماضون قد انعكس سلباً كالعادة وبشكل كبير على مصالح المسلمين ومسالكهم بل إن الأمر قد أوصل فريقاً من عوام المسلمين إلى التردد في العقيدة واختلاف المشاعر وضياع طمأنينة الإيمان والخشوع المرجوة في هذا الشهر بالذات.
وحين ننظر إلى الأمر محللين يوصلنا التفكير جزماً إلى أن ما يحدث هو مناورات سياسية أكثر منها شرعية متغاضين عما يسبب ذلكم من أذى على الإسلام والمسلمين سواء من داخله أم من خارجه. ولكي تتضح الصورة قليلاً نعيد المشهد المكرر كل عام بكافة تفاصيله ولكن بنظرة أكثر تفحصاً وإدراكاً للبواعث والحيثيات. يقترب الشهر الفضيل فتتجه الأنظار والقلوب صوب أهل الفتوى في مصر والسعودية حتى يصدر أحدهما الفتوى بالصيام ليكون فتوى الآخر مغايرة غالباً فإن لم تكن في البداية ففي النهاية ، وبمجرد إصدار هذه الدولة أو تلك فتواها ترى حزبها وقد تتابعت فيه الفتاوى بما يوافق. إن أعلنت مصر بداية الشهر لحقت بها فوراً دول محور السلام (الأردن والسلطة الفلسطينية) والدول العربية الإفريقية (تونس والجزائر والمغرب والسودان) وإن أعلنت السعودية هرعت إلى ذات الإعلان دول مجلس التعاون الخليجي وسوريا ولبنان واليمن كدول عربية أسيوية وذات مصالح مرتبطة بالسعودية. يتبقى في المقعد المخالف دوماً وأبداً لكي تعرف ليبيا وزاد عليها هذه السنة العراق الذي ولظروف سياسية انقسم حتى على ذاته فصام قسم مع حزب الخليج تقرباً ومصالحة وصام الآخر ضده عناداً ومحاربة.
ولعل المتأمل في الصورة يجد أن الباعث على الاختلاف سياسي وليس ديني. السعودية ترى في نفسها زعيمة العالم الإسلامي الذي يشمل العالم العربي ومصر ترى أحقيتها بالزعامة ولذا يتنازع هذان (الزعيمان) الأمر أيهم يتبعه الآخرون. ولعل منكر يجادل في هذا راداً علينا دعوانا فنقول متسائلين: لم يحدث هذا الأمر مثلاً في إثبات رمضان ولا نجد مثل هذا الخلاف في إثبات ذي الحجة إذ تكون الكلمة المطلقة فيه لفتوى السعودية؟؟ أليس الحج ركن أساسي كالصيام؟؟ ألا يعني الأمر المسلمين جميعاً كما الصيام؟؟ فإن كان ذلك فلم لا يحدث فيه ما يحدث في أمر رمضان؟؟ الجواب المنصف واضح بين بأن مرد الأمر سياسي بما تملك السعودية من قرار على دخول وخروج الحجيج إلى الأراضي المقدسة.
وبنظرة فقهية شرعية إلى الأمر نرى الإسلام قد أوقف الصيام على رؤيا الهلال بنص القرآن في قوله تعالى ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة:185) وقول رسوله صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) أي هلال الشهر. والرؤيا تتم بالعين المجردة سواء مباشرة أو باستخدام ما يعين كالمنظار ونحوه ويكفي شهادة عدل ليكون ذلك كافياً لإصدار الفتوى بالصيام فإن غم فإكمال العدة ثلاثين يوماً. وعليه فيتضح أن الإسلام يكرس وحدة الرأي والتوقيت وقال رب العباد في كتابه: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ )(البقرة: من الآية189) وفيها إزالة أمر اللبس عن الأفهام بما وضح الله تعالى من أن الأهلة والحسابات ما هي إلا وسيلة لتنظيم أمور الخلق وترتيب أعمالهم ولا حاجة لله تعالى بهذا فكل الأيام لله تعالى ولعل في الآيات التي تحدثت عن القبلة ما يرسخ هذا الفهم وخصوصاً عند قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:115) فاستلام القبلة أمر لا يعني أن الله لا يكون إلا في اتجاه القبلة وإنما الحكمة هي الاتباع أولاً وتوحيد التوجه والصف ثانياً إذ أن الله موجود في كل مكان وأينما تولى فالله موجود يرى ويراقب العمل. إن بداية الشهر بالرؤيا وانتهاؤه بها لا يختلف عن هذا المعنى العظيم من الاتباع أساسًا ومن ثم التنظيم والتوحيد بما يجعل الأمة الإسلامية كما الجسد الواحد إلهها واحد وقبلتها واحدة وشهرها واحد وأعيادها واحدة ، وإن في تحريم صيام يوم الشك ويوم العيد لتذكرة وتبصرة لمن ألقى السمع وهو شهيد.
إن الضرر الناتج من مثل ما قدمنا من اختلاف المسلمين في بداية رمضان وفي تحديد يوم العيد أمر لم يعد السكوت عنه أمراً حكيماً. ولئن كان في التشريع ما حفظ للمسلمين الأوائل ممن لم يملك وسائل الاتصال بالمناطق الأخرى حقه في أن يصوم باجتهاد أهل قريته أو بلدته تيسيراً ورحمة فإن أهل هذا الزمان إذ ملكوا من وسائل الاتصال ما جعل العالم أجمع كقرية صغيرة يتأثر بعضهم ببعض ويتابع بعضهم بعضاً ثم ذلك الكم الكبير من المسلمين في بلاد غير المسلمين ملزمون بأن يتفقوا في فتواهم ببدء الصيام اتفاق أهل القرى الصغيرة في القديم والنظر إلى مصلحة المسلمين بشكل عام وإخلاص العبادة لله تعالى وعدم إشراك المصالح بها. في المدينة التي أقطنها في السويد صام نصف المسلمين حسب فتوى مصر والنصف الآخر حسب فتوى السعودية وحصل لغط شديد فيما إن اختلفت الدولتان في الفتوى بالعيد إذ سيجد البعض نفسه ملزماً إما بأن يفتي لنفسه بالعيد أو أن يصوم واحد وثلاثين يوماً وفي كلاهما خروج عن الشرع ولم يخرج القوم من هذا إلا رحمة ربنا. ولا أخال إلا يحدث هذا في دول كثيرة من بلاد المسلمين .
إننا اليوم نطالب أولي الأمر والعلماء وأهل الحل والربط بأن ينتبهوا لهذا الأمر العظيم وأن يتجردوا من الهوى والمصالح ويخلصوا دينهم لله تعالى وينظروا في أمر المسلمين ومصلحتهم والتي تقتضي أن نكون أمة واحدة نعتصم بحبل الله جميعاً فلا نتفرق حتى في الصيام والقيام وإنني أقترح عليهم أن يشكلوا "مجلس فتوى الأهلة" يشكل من المفتين العامين للدول العربية ومن يرغب من الدول الإسلامية ليتم البت في بدايات الأشهر القمرية لما في ذلك من أمر عظيم يترتب عليه ركنين مهمين من أركان الإسلام الخمسة فالأمر يخص المسلمين جميعاً ومثل هذا الأمر سيكرس الوحدة في أمة الإسلام ويملأ القلوب بالطمأنينة والنفوس بالثقة والديار بالخير والرضى.
_(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (آل عمران:103