لم يفهم النقد بمعناه التطبيقي العملي كما فهمه أسلافنا الجاهليون ، ولم يفلسف النقد بمعناه النظري كما فلسفه الأوربيون حديثاً ، وبين الفلسفة النظرية للنقد الأوربي ، والتطبيق العملي لنقدنا في الجاهلية ضاع المبدع العربي ، وتاه به السبيل وتوزعت موهبته بين مجاراة النظرة العملية للخطاب النقدي ، وتمثل الشبكة النظرية لهذا الخطاب ، ومن هنا بدا النقد من وجهة نظر الكثير من الناس هذراً لا طائل تحته وكلاماً لا فائدة منه وأنت عندما تستعرض أسماء الكتب النقدية المؤلفة حول الأدب تلمس جيلاً من المصطلحات يكوّن عبئاً على الأدب نفسه ، ويحوله إلى جنازة فجائعية يندب أصحابها ضياع أكسير الأدب ، وهم معتقدون أنهم إنما يزفون لهذا الأدب عروسه الضائع .
فبين الألسنية والبنيوية والأسلوبية والذرائعية والرمزية والسريالية و الرومانسية والدادائية تشظت شخصية الأديب وتاهت رؤيته الشعرية وأصبحت نصوصه الإبداعية نهب الضياع والتشرد والهلوسة وأصيب الأدب بنوع من الهلع وتحول إلى نوع من الأشباح السوداء القاتلة وزاد الطين بلة ما رسمه النقاد من أطر جديدة استمدوها من معطيات معرفية نظرية لو قسناها بمقياس الواقع لخرجت بالأدب عن حدوده الحقيقية لأن ما ينشده القارئ أصبح في هذا الزمن غير ما ينشده المبدع وغير ما ينشده الناقد وهذه الثلاثية جعلت الأدب جنازة صامتة فقضايا الجمهور ( القارئ ) قضايا الحرية والمساواة والعدل والحق والخير و الجمال والأدباء لا يستطيعون ملامسة هذه القضايا لأنها على تماس مباشر مع السلطة والنقاد يتفلسفون بمفهومات هائمة لأنها غائمة معضمها مستورد من مفاهيم معرفية نبتت في تربة غير تربتنا ظناً منهم أنهم يرضون الجمهور من جهة أخرى وهذا ما جعل النقد أعرافاً غائمة لا وجود لها على أرض الواقع .
إن مهمة النقد لم تعد إيجاد تعاريف ومصطلحات جوفاء لا جذور لها في الواقع وإنما أصبحت مهمته خلق جيل من الأدباء يعون واقع أمتهم ويفهمون عمق مشاكلها حتى يستطيعوا حل تلك المشكلات و خلق جيل من القراء يفهمون الأدب على حقيقته ، ويجسدون ذلك الفهم وعياً فاعلاً في دفع حركة الحضارة باتجاه الأحسن والأجدى والأعمق حتى يصل الإنسان إلى ماينشد من الحق والعدل والخير والجمال .إذ إن القارئ والأديب لا يهمهما من النقد بقدر ما يهمهما أن يدفع نحو الوعي الفاعل أما تعليقه فمسألة مهمة ، وغاية قائمة برأسها ، وأما إيجاد نقد موجه ومبرمج للأحسن ، والأجدى فغاية الغايات لأن مهمة الفنون الإمتاع والإقناع ، ولا فن بلا نقد ولا نقد بلا هدف