الإهداء..
إلى الناقد المتفرد الأستاذ معروف محمد آل جلول
العصف المَأكول..~~
واستغرب الفأرُ "العزيمة"، وهَمَسَ في أُذن زوجه:
-أيّة مَأدُبة! وأيّة دعوة! وأيُّ تخريف هذا؟
المفــترس"مَهْــران" يَحُجُّ... يَعْتَمِر...يُقِيـمُ الولائم...!
والمَدعوون فئـرانٌ وفئـرانٌ وليس غير الفئران؟!
أوَليس في هذه الحظيرة الفسيحة غيرنا كي يشرَّف بالدعوة ويُكرَم بالعشاء
يا امرأة؟
أم أن صاحبنا قد تاب في عُمْْرَتِه وآب، ونقىّ-بزَمْزَمَ- قَلْبَه من الشّهوات، وصار يَتسَوَّلُ مِنّا فرصةً يُكَفِّرُ فيها عن ذنوبه الكُثُر قبل الممات، خصوصا وهو يشارف على الصَّيرورة فأرا من الهُزال والهَرَمِ، لَولا فِراءُ القِطَطَة الرّمادي الذي يَنْفُخُه.
فَلْيَكُنْ...ولْنَلْتَمِسْ لأخينا، لابن ضَيْعَتِنا، العُذْرَ ا لسبعين- بعد الألف-
ولْنَرى ما عساه الليلةَ فاعلٌ؟
وابتاع له هدية لذيــــذة..."لحمٌ مفروم مُصَبَّر بنكهة الفئران"...
وكذلك فعل باقي المدعوين...
وأراقوا العصائر والمشروبات فوق مائدة السُّفْرَة، وتشاطروا قطع الأجبان والشَّحم والفطائر، ورقصوا، وأَنْشَدوا، وتعانقوا معه، مع حَفَدَتِه وأهل بيته...
حتى إن صغارهم ارتموا في حِضنه مداعبين شواربه البراقة:
-أن يا جدنا...ما أَحَنـّّكَ...ما أرْأَفَكَ...ما أصدقك...وما أَكْذَبَ آباءنا في نَسْبِ الدَّنيء من الخِصال إليك وإلى أفراد سُلالتك.
وإنا لَنُعاهدُكَ ــ ومنذ ا لليلة ــ على أن نَعُودَكَ ونُقِيمَ في "عُشَّـتِك "هذه بقدر مكوثنا في جحور آبائنا، حتى وإن أَنَّبُونا وعَنَّفُونا.
ولكم كـــان انعكاس ظلال أجسادهم الغَضَّة باهرا في عيونه، ونَبْضُ قلوبهم الرَّهيفة عنيفًا مُتسارعا في قلبه وهو يَضُمُّهم إلى صدره بشدة ويُهَدْهِدُهُمْ...و"يُشَمْش ِمُهُمْ"..
وتناوبوا جميعا على حِجره وحِضْنِه، مُقَبِّلينَ يَديْه المرتعشتين المُتَوكِّئتَيْن على عصًا غليظة من ا لخيزران، وجبينَه المُتَفصِّدَة عرقا غزيرا مُثَلـّجا ــ غير كبيرهم! ـ
فوحده ما دنا، ولا انْطَلَتْ عليه مَكيدةُ آل البيت...
بل ظل يُراقبُ الحاج عن بُعْد، ويَتَنَصَّتُ للُهاثه غير المحسوس، ويَتَتَبَّعُ مَسار لُعابِه المتهاطل كَوَابِلٍ غزير، وأظافيرَه المُلْتَمعةَ التي بدأت تَدبُّ شيئا فشيئا، وزوجتَه التي سَفَرَتْ بعد طول انزواء في أحد الأركان، وهي تَسْحب بحذر شيئا سميكا أشبه بشباك الصيد، وحُفداءَه المتوزِّعين أمام كل مدخل ومخرج وجُحر...
فقفز إلى المِنَصَّة راقصا، ومُراقِصًا كل فرد من الفئران على حِدة، وهو يتَرَنَّمُ بلهجة لا يفقهها غيرهم:
في غَضِّــهِ الأََبْصـــارَ حاجٌ ناسِكٌثم همَّ بالعدو، وسرعان ما حَذَتْ بقية الفئران حَذْوَه ُ وتَفَرَّقَتْ مذعورة في كل وجهة...
والوَثْبــَـةُ الرَّعْنَـاء خيرُ المُفْصِحينْ
أنَّ العِـمـامَةَ فوق رأس فَقيهِنــــا
ما دَلَّ لَوْنـُها عالتُّــقــى والدِّيـــنْ
فَلْتَنْتَقي ا لفئرانُ سَفـــّـُودَ الشِّــوا
أو تَـتَّقي السَّفّــاحَ بالعَدْوِ المُبِيـــنْ
فمنها ما دُكَّ دَكًّا بأعواد المكنسة الخشبية وصُيِّرَ لَحْمًا مَفْرُوماً طازجا، متبَّلا، ليس في حاجة إلى نكهة الفئران...
ومنها من قضى نَحْبَهُ بين فَكَّيِّ أحد الهِرَرَة المُتَناحِرين...
وأما الثــُّـلَّةُ النَّاجيَةُ منهم...
فعادت إلى ا لجحور خائرة القوى، مُنْهَكَةً من التعب وهي تئِنّ و تَنْزِفُ...
وتَجَمْهَرَتْ حول جُثَّة الحكيم المُحْتَضر الذي جعل يَشُدُّ الأيادي، ويُرْجِفُ الأعْيُن،
ويَهْذِي بِحِكَمٍ ما أَفـْلَحََ أحد في فَكِّ تَراميزها، قبل أن يَنْضَمَّ إلى...مقابر العَصْفِ المَأْكـُــول.