صديقتي العزيزة
كان قدري أن أكون بين إخوة ذكور دون أنثى. كنت أشعر دوما أن بيتنا في حاجة إلى وردة ندية وسط هذه المجموعة الخشنة.
في كل مرة كانت أمي ترى في منامها أنها أنجبت أنثى فتلد ذكرا .. كانت أمنيتها أن تلد بنتا ، و مع ذلك لم أسمع يوما امرأة تدعو لها بذلك، كل الجارات و الزائرات لا يدعين لها إلا بولد .. عبارة رزقك الله بنتا لا تخرج من أفواه النساء إلا عندما يقصدن بها عروسا لولدها.
حكم القدر على أخي الكبير أن يشتغل كثيرا مساعدا لأمي في كل أمور البيت؛ بما في ذلك رعاية أصغر إخوتي .
كنت أغار كلما رأيت طفلا يلعب مع أخته .. سرعان ما أندمج معهم في اللعب، لكن ما يلبتان أن يغادرا إلى البيت و أدخل أنا إلى عش ذكوري مخيف ..
كانت أمي في كل مرة تستنجد بإحدى قريباتها لتساعدها في أشغال البيت، لكنهن في الغالب يرفضن بذرائع واهية، و الذريعة غير المصرح بها أن في بيتنا عزابا كثرا، و لا يليق بأسرة تحترم نفسها أن ترسل ابنتها لمساعدة والدتي، لان ذلك قد يفهم الشيء الكثير ...
.........
في المستوي الثانوي من تعليمي، كان حظي أن أكون في فصل واحد مع ليلى .. لم أدر ما الذي دفعني على التقرب من هذه التلميذة القادمة إلينا من مدينة أخرى ...
تعمدت تغيب حصة التاريخ، فلا بأس إذا فاتني درس من الحضارة القرطاجية، كما أن الأستاذ يكتفي بالإملاء علينا من بداية الحصة حتى نهايتها .. زعمت أن راسي يؤلمني فأخذت الإذن من المدير و غادرت المؤسسة .. وفي الليل قضيت ساعة وأنا أتمرن على الطريقة التي سأطلب بها الدفتر من ليلى لنقل الدرس على دفتري . كنت أتلعثم حتى في غيابها. فكرت أن التمس من أحد الأصدقاء النيابة عني... لكنه سيعطيني دفتره و تنتهي الحكاية، أو اضطر إلى إشراكه في القصة من بدايتها إلى نهايتها..
أخيرا أخذت القرار الصعب وتذكرت "استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان " .
في الصباح بعد خروجنا من حصة الفرنسية قصدت ليلى بخطوات متثاقلة و رجلان لا تفارقان الأرض إلا بشق الأنفس :
- من فضلك ليلى ، هل يمكن أن تعيريني دفترك لأنقل حصة الأمس من مادة التاريخ ..
- ممكن جدا... تفضل .
... كانت صدمتي قوية جدا ، لماذا استعد و ارتبك وهي تجيب بكل هذه البرودة و البراءة .. !!؟؟
كدت أموت فرحا فهاهو الدفتر بين يدي .. و بمجرد ما دخلت غرفتي أخرجت الدفتر و بدأت في تفتيشه صفحة صفحة، أتأمل خطها خاصة العناوين التي تخطها بلون أحمر ، غير أني لم أجد شيئا إلا الأسطر نفسها المكتوبة عندي ، تمنيت لو أستطيع أن أكتشف سرا من أسرارها أو أجد عنوانا إلى قلبها .
.....
بدأ فضولي يكبر ففكرت في شيء من شأنه أن يطيل الحديث بيننا. أخذت وريقة و كتبت عليها "أختاه تمنيت لو كنت ترتدين الحجاب ، سيزيد قلبك إيمانا ووجهك نورا ". طويت الوريقة ووضعتها بين طيات الدفتر ..
.....
في الصباح سلمتها الدفتر شاكرا ثم اختفيت بسرعة خوفا من رد فعلها إذا وقعت عينها على الوريقة.
في المساء استعرت كتابا دينيا من أحد الأصدقاء لأقرأ عن الحجاب، فربما تناقشني في الموضوع، و أحتاج زادا معرفيا لأقنعها..إن لم تكتف بنقد جرأتي، أو ربما أسمعتني مالا يرضيني ، أو ربما أخبرت الإدارة بوقاحتي، أو ربما أخبرت أباها بالأمر ليصير القزم عملاقا ..
في اليوم الموالي كان الجو شتويا باردا .. دخلنا الحصة الأولى، ألقيت بناظري على التلميذات؛ لا أثر لليلى..أصابني الذعر ، احتشدت كل الوساوس في رأسي، شعرت بازدياد سرعة ضربات قلبي ، فكرت أن ألمس رأسي لعل شعري يكون قد وقف خوفا.. ما الذي حدث..؟ .. بيد أنه سرعان ما تبددت مخاوفي ، وهاهي ليلى قادمة، لمحتها من نافذة الفصل تخطو بثبات .. و عندما وقفت أمام الباب تعتذر للأستاذ عن تأخرها غير المعتاد؛ عم الهدوء الفصل و تسمرت الأعين ناحية الباب و كأن صاعقة حالت بمن في الفصل .. كان ارتباك الأستاذ باديا .. كانت ليلى ترتدي معطفا أسود واضعة حجابا ابيض ناصعا زاد وجهها جمالا، فبدت كالبدر في تمامه، و أصبغها البرد مسحوقا ورديا طبيعيا على وجنتيها.. أحسسنا و كان السماء أهدت فصلنا وردة باسمة في صباح ندي ..
...
توطدت علاقتي أكثر بليلى خلال الفترة الجامعية . شاركنا هموم الدراسة و البحث العلمي، فملأت علي ذلك الفراغ الذي خلفه غياب أخت شقيقة، وصارت لي أخت صنعتها الأيام و لم تنجبها والدتي .. اختارت ليلى أن تناديني دوما " خويا " و أنا سعدت بهذا الوصف لأنني حرمت منه، كانت تستشيرني في كل شيء و تطلعني على ما جد في حياتها .. كانت جادة صارمة مما أغلق بيننا كل نافذة يمكن أن تنحرف بعلاقتنا، بل إن انتقادها لكثير من سلوكات الطلاب و الطالبات و العلاقات المشبوهة بينهما كان رسائل غير مباشرة لأدرك حدود علاقتنا ...
....
اجتزنا المرحلة الجامعية بنجاح .. اشتغلت موظفا حكوميا بينما أصرت ليلى على مواصلة البحث العلمي لنيل الدكتوراه ... غدت همومي أكبر، و انشغلت كثيرا بالعمل غير أن الاتصالات لم تنقطع كليا، بل استمر السؤال عن الحال و الأحوال، و في كل مرة تذكرني أن علي أن اختار لنفسي زوجة طيبة تليق بي لأبني أسرة صالحة ... بل إنها تصر علي أن انهي العزوبة و أدخل القفص الذهبي الجميل ...
...
حملت كلامها محمل الجد، و بدأت أطلق العنان لبصري بحثا عن زوجة الغد، و وشكلت فريق بحث أعضاؤه أقرب أصدقائي إلى قلبي و أكثرهم ثقة في حفظ أسراري..
....
كلمت ليلى هاتفيا وحددت موعدا اللقاء بنادي الثقافة القريب من الجامعة .
و أمام باب النادي التقينا .. سعدت بلقائي كما سعدت بلقائها، و استفسرت عن حال الأهل و الأحباب .. تذكرنا أيام الدراسة الجميلة، و أخيرا أخبرتها بحكاية الدفتر ... ضحكت كثيرا حتى ظننت أنها فقدت صوابها ..
وقد أوشك لقاؤنا على الانتهاء، وهمت بالمغادرة أوقفتها معتذرا لأن عندي جديدا أريد أن أطلعها عليه ..وقفت متشوقة:
- أهاه ... لا تقل إنك أخيرا ..
- صحيح لقد وجدت أخيرا أم عيالي. و يسرني أن أخبرك أنني قررت الزواج..
- من سعيدة الحظ هاته؟
- ......
مدت ليلى يدها إلى وجهي راسمة صفعة على خدي .. غطت وجهها بكفيها و أجهشت بالبكاء ثم أدارت ظهرها، بينما تسمرت في مكاني مصعوقا و أنا أسمع وقع خطاها ينخفض بالتدريج والمسافة بيننا تتسع..