أنا وأمي والتابوهات
بعد أن أصبح العالم قرية صغيرة، أو هو بيت كبير يخضع للمراقبة، وأصبح كل منا يطَّلع على مايدور خلف جدران حجرة غيره، دون ضابط أو معيار، أو حتى مجرد استئذان، اختلفت لدينا المفاهيم، وتميعت بيننا القيم، وقُدَّ قميص الفضيلة من الجانبين .. جانبنا نحن المتعاطين مع هذا المتغير، بحجة مواكبة ركب التقدم والمدنية الجديدة، وجانب القائمين على إبقاء نيرانه مشتعلة بالتوسع والتنويع في تعدد روافد هتك الستر، أيضا بحجة عولمة التمدين ونشر الحرية، ومن ثمَّ أصبحت الفضيلة خجلى، وتبحث لنفسها عن ملاذ آمن في كوامن نفس لاتزال بداخلها قناة صافية لتسبح مع تيارها..
أذكر حين كنا صغارا، نلهو في قريتنا الصغيرة، كانت أمهاتنا يعلمننا ـ وهن غير المتعلمات ـ بتلقائية وبراءة أطر تابوهات العيب والفضيلة والعلاقة بالآخر ـ أي آخر ـ فكل فتاة في حينا، كما علمتني أمي، أطال الله بقاءها، هي أختي، لها عليَّ واجبات وحقوق.. أحافظ عليها، وأحميها من نفسي، فضلا عن حمايتها من كل غريب يحاول المساس بها .. وكل طفل هو أخي، لا آكل أمامه إلا إذا أطعمته مما أطعم، وإلا ـ إن كان لايكفي ـ فعليَّ ألا أفعل حتى لا أقع في دائرة الحرام : " لأنه يمكن ياابني يكون نفسه في الحاجة دي ومعندوش وكده يبقى حرام عليك " .. وكل رجل هو عمي، وكل امرأة خالتي، وكبار السن جميعا أجدادي .. لهم جميعا عليَّ فروض الولاء والطاعة والاحترام، وتلبية مطالبهم، حين يحتاجون إلى شراء شيء، أو حمل آخر، أو طلب شخص هم في حاجة إليه، أو ماشابه ذلك من الأمور الحياتية اليومية المعتادة، والتي لاتنقطع، والتي غالبا ماتقع على كواهل الأطفال، حتى وهم في أعمق لحظات نومهم، أو في أشدها تفاعلا مع أقرانهم في اللعب .. ولاتذمر، وإن كان ثمة تأفف، فيظل مكتوما، لايمكن البوح به، حتى لأمي، أو لأبي، كي لاينهراني على القصور، أو يتهماني بسوء الأدب .
كانت بيوتنا جميعا مفتوحة ولا أذكر يوما أنني دخلت بيتا بعد أن طرقت له بابا، فالأبواب جميعا مشرعة، تستقبل القادم في ترحاب بحب وكرم شديدين، مع أن إمكانات الناس حينها بالكاد تكفيهم، وغالبا لاتفي بالحد الأدنى، ومع ذلك تراهم بشوشين مرحبين سعداء بالقادم : " ماهو كله بياخد نصيبه والرزق بينادي صحبه" .. ومع أن الأبواب كانت دوما مشرعة، كان لابد أن أنادي على من بالبيت حتى يجيبني أحدهم لأدلف إليه .
لم تكن بين الناس أحقاد ولاضغائن، وكانت المكاشفة في الأمور بشفافية هي مرتكزهم في حل جميع معضلات حياتهم وبسيطها .. الكل يبحث عن الآخر ويتحسس أموره .. همهم واحد، وفرحهم أيضا كان واحدا.
وأذكر أن جارا لنا توفي في حادثة، وبيته ملاصق لبيتنا، وكنت وقتها قد انتقلت إلى القاهرة في أولى سني دراستي الجامعية، وجاءني الاتصال ، فهرولت دون تفكير لأستقل أول مركبة تقلني إلى قريتي، وحمدت الله أنني تمكنت من المشاركة في تشييع الفقيد، وتأدية واجبات العزاء إلى جانب أهلي .. وبعد أسبوع اشتهيت طعاما ما، وطلبته من أمي في يوم سفري إلى القاهرة عائدا إلى دراستي، فنهرتني أمي بشدة على غير عادتها، وقالت: " أنسيت أن جيراننا مجروحين بفقد ابنهم؟! .. كيف يكون شعورهم وهم يشتَمُّون أبخرة الطعام ويعرفون كنهه؟! .. ألهذا الحد بلغت بنا الحال، أم أن القاهرة غيرتك، ولم تعد تعرف الأصول؟!! .. قالت أمي ذلك وأنا أقف أمامها طفلا صغيرا، لا أحر جوابا، ولا أجد ما أرد به، وشعرت أنني اخترقت إطار تابوه طالما حافظنا عليه، وطالما حددت أمهاتنا لنا ملامحه..
قالت أمي ذلك وأنا على يقين أنها تتألم أشد الألم، لأنها لم تحقق لأكبر أبنائها رغبته في تناول طعام يشتهيه، وهو الذي سيتركها بعد سويعات عائدا إلى مكان دراسته، ولن تراه إلا بعد حين، وهي التي طالما كانت تتحسس رغبات أبنائها وتلبيتها بسعادة وحنان ..
وتمر الأيام، وينقضي عقد ويتلوه آخر، وتصادف أن كنت في قريتي لأداء واجبات عزاء في البيت نفسه، الذي كان مجاورا لبيتنا القديم، وإذا بي أقف حائرا شاردا صامتا دهشا أمام مشهد لم أكن أتخيله يوما ما، وهنا .. هنا في قريتي حيث الأطر المحددة الواضحة للتابوهات، فبعد أن انتهت مراسم العزاء، اجتمعنا في بيت المتوفى، لمواساة أهله، وتقديم شيء مما يفترضه تابوه الواجب في مثل هذه الحالات، وإذا بشاب هو في عمري نفسه قبل عشرين عاما، يقوم من مكانه بلا اكتراث، ليفتح التليفزيون، ويغير في قنواته ويبدل حتى استقر على ما يريد، ببساطة شديدة، دون أن يستنكر عليه أحد ذلك ..
هذا المشهد لو أنه حدث قبل عشرين عاما لقامت الدنيا وما قعدت، ولأقاموا على فاعله الحد بلا هوادة أو رحمة؛ لأنه كسر الأطر، فقد كان التليفزيون من المحرمات وكذا الراديو، إلا إذاعة القرآن الكريم، كما أن هناك بعض الأطعمة المحرم تناولها ـ عرفا ـ لأنها مرتبطة بالسعادة والفرح، وهذا لايجوز، حتى لمجرد إظهار الشعور به، أو تعاطي شيئ من طقوسه، طالما في جارك جرح لم يبرأ ..
كانت لاتزال القيم ركيزة صلبة، وكان الناس متحابين، وكانت شفافيتهم تمنعهم من تمييع تلك الخصال .. كان العرس يؤجَّل لأشهر طويلة حتى يبرأ الجرح، ثم يذهب أهله إلى أهل المتوفى يستأذنونهم في إتمام عرسهم، ولابد من ترضيتهم .. كان الحزن يخيم على الجميع، صغارا وكبارا، لأن جارا توفي، أو أن مصيبة ما ألمت بأهل بيت قريبين .. كان للناس شعور واحد، وملامح واحدة، وهدف مشترك .. كانت هذه قريتنا، والآن ـ بل وقبل الآن ـ أصبحت ..
نسيت أن أذكر أن أمي بعد عدة شهور حققت لي رغبتي في أن أتناول هذا الطعام الذي كنت أشتهيه، وصدقوني تناولته على استحياء، ولولا رغبة لأمي في إطعامي إياه حتى لاتشعر بالذنب تجاهي لما جرؤت على تناوله ..
ونسيت أيضا أن أذكر أنني حين عدت إلى بيتنا من العزاء الأخير ذكرت لأمي ما حدث، فتذكرت بدورها ما حدث، فقامت من مكانها، وقبلتني بين عيني، وقالت: " الدنيا ياابني اتغيرت، والناس زادت مشاكلها، ومحدش فاضي يربي في حد" ، وانحدرت على وجنتيها دمعتان، هما عندي أغلى من الدنيا وما فيها، فقبلتها وقبلت يديها، وعلمت أنها حزينة، لأن الناس ماعادوا كما كانوا، ولأنها يوما حرمت ابنها مما يشهيه، غير آسفة، لمصاب في ذلك البيت .. فهكذا أمي، وكذلك علمتني ..... وللحديث بقية.