المسيري .. والموت
هبة رؤوف عزت
اجتاحني شعور ليلة الخميس أن أبي يموت. كان والدي رحمه الله حين يلتقط سماعة الهاتف ليجد الدكتور عبد الوهاب المسيري علي الطرف الآخر يتبادل معه بود بعض كلمات التحية المعتادة ثم يناديني:«يااااااهبة...أبوكي علي التليفون». وبعد أن مضي أبي في رحلة الوجود لمحطة تالية بقي أستاذي الدكتور عبد الوهاب المسيري الأب.. وتولي برفق دور الوالد. «هبااااااة...وحشتيني..إزييي يا بنتي»..أحكي أخباري، وأبسط أفكاري، ويطلعني علي آخر ما يشغله ثم يقول في نهاية المكالمة «مش عايزة حاجة يا بنت؟! وراكي رجااااالة»..وتعلو ضحكته الودودة الفريدة فأشكره وأدعو له.. وبين حين وآخر أذهب لنتناقش ونحن نحتسي القهوة، نتحاور،نختلف..نتفق، وأتعلم، وأفهم بشكل مختلف، وأرتوي كزهرة برية ترتشف قطرات الغيث وتجدد ألوانها. «الأحد الماضي اتصل بي، كان بيننا موعد ليستقبل مجموعة من طلاب السنة الرابعة ليتحاور معهم في أبحاث التخرج التي كتبوها عن الصراع العربي الإسرائيلي، «أنا في المستشفي!» .. أقلقني صوته، وتجاذبنا أطراف الحديث، واعتذر عن اللقاء، وتمنيت له العافية، فهو يعلم أني لا أزوره في المستشفي أبداً، منذ عرفته في 1990 وأنا أراه الأستاذ والمعلم والأب، وعبر السنوات الأخيرة كان من الصعب علي أن أراه ممدداً حين يحتاج رعاية طبية خارج المنزل، أخبرته منذ سنوات بهذا.. فتفهم، وكنت أزوره حين يعود للمنزل كي أراه جالساً في صالة منزله في مكانه المعهود، تلك الساحة الفكرية التي شاهدت تجديد أثاثها وتصميمها مرات ومرات، وفي كل زيارة لابد أن أجد لوحة جديدة، أو قطعة فنية من الفضة القديمة معلقة في زاوية أو نباتاً إضافياً قد تم تسكينه وسط المكان المزدحم تارة بالأوراق وتارة أخري بالتلاميذ والمحبين..فلما ضاق بهم المكان اتخذ من الشقة السفلية في الدور الأرضي مكتباً ومساحة استقبال لصالون الشباب. كان ترتيبي أن أستكمل سلسة مقالات أحلام العصافير اليوم عن الإخوان والشباب والمرأة. عصفت بي وفاة أبي، لكنني وجدت أن حالة عبدالوهاب المسيري تستحق النظر في هذا المجال، فما أنجزه من كتابات وموسوعات لا يقل عنه ما أنجزه في صياغة عقل الشباب ودعم المرأة. كان أبي يحب أن يدفع بالبنات للمقدمة، فقد كان أستاذاً جامعياً بكلية البنات جامعة عين شمس، فكان حفياً بالمرأة يحترم عقلها ويدرك إمكاناتها، وترك بصمة لا تمحي في حياة الكثيرات من تلميذاته في الجامعة، ومريداته من أمثالي من خارج تخصصه وهو حقل الأدب الإنجليزي، لأنه كان موسوعياً، للباحث في أي مجال من العلوم الاجتماعية قضية يناقشها معه أو مشورة يحتاجها في دراسته، ولن يجد من يستقبله ليطورها معه ويستمع له فيها بل ويعطيه كتاباً أو حتي يمنحه بعض المال ليعينه علي القراءة والبحث مثل المسيري..فهو الأستاذ والمفكر والأب والصديق لعدد ضخم من الباحثين الشباب في أرجاء العالم العربي، وله عليهم أياد علمية ومعنوية ومادية، كثير منهم من رعاه في صالونه للشباب يتبادل معهم الفكر وينصت ويتضاحك بل وقد يأخذهم في رحلة نيلية علي قارب في ساعة عصر، كما كان يسافر المسافات ليلتقي في أطراف البلدان بشباب قرأوا كتبه ودعوه لمنتدي في مدينة صغيرة في المغرب أو مركز بحثي ناشئ في الأردن فيقدمهم علي الاحتفاليات الكبيرة والمؤتمرات الفخمة في الفنادق النفطية..وبقي مخلصاً لرسالته مع الشباب حتي آخر حياته، وكنت أعاتبه علي السفر المرهق للقاء شباب الباحثين.. وعلي النضال المنهك في «كفاية» لحد التعرض للضرب والخطف ثم إلقائه في الصحراء هو وزوجته د.هدي حجازي علي يد أشاوس أمن الدولة، وأشفق عليه وحالته الصحية فيضحك ويقول «لا..لا..لازم..لازم..أنا كويييييس.» اجتاحني شعور ليلة الخميس أن أبي يموت... مددت يدي للهاتف لأتصل به ثم وجدت عقارب الساعة تشير لمنتصف الليل. استيقظت في الصباح بنفس الشعور، أمد يدي للهاتف مرة أخري ثم ألمح عقارب الساعة تشير للسابعة، أقول فلأنتظر قليلاً لأقول له صباح الخير حول التاسعة، في الثامنة والنصف يتصل بي الأخ الدكتور هشام الحمامي، صوته المتهدج عند إلقاء السلام كشف لي قبل أن ينطق عن الخبر، قال: «البقاء لله في الدكتور المسيري..هل اتصل بك أحد ليخبرك؟»..فقلت له لا.. لكنني.. شعرت.. كان للمسيري موقف فلسفي من الموت، لم يكن يخافه، ولم يكن ينتظره، عاش ليفكر، ويكتب، ويناضل، غير آبه بموت يقترب ويعلن عن نفسه برسول المرض العضال دون مواربة..كأنه غافل الموت، ومضي حراً للمحطة التالية... بعد صلاة الجنازة ألقيت نظرة من شرفة النساء بالمسجد علي المحراب، فوجئت بالنعش محمولاً علي الأعناق، في اتجاه الباب الواقع أسفل الشرفة، فكان النعش تحت ناظري تماماً..خفق قلبي وسالت دموعي...لقد خلع جسده ومضي...لم يفلح هذا الجسد المسجي في النعش عبر أطوار حياته في تقييد همته العالية أو تحجيم روحه المتفائلة أو عقله المتقد، ونجح أبي في أن يحتفظ بعنفوان وجوده حتي اللحظات الأخيرة من حياته.... ............... للمرة الثانية أفقد أبي.. للمرة الثانية أصلي الجنازة علي أبي، للمرة الثانية أنظر لنعش أبي، للمرة الثانية أعود لمنزلي.... يتيمة.
الدستور 6/7/2008