كوخ وخيمة
أُغْمضُ جفني مرةً تِلْوَ مرة أَمْتري* النومَ عله يقطر غفوةً ، فكان الجفنُ في كلِّ غِمْضٍ صفحةً إثر أخرى كتبتُهنَّ صمتا منذ أنْ عرفتُ اللغة .
أيتها الصفحاتُ ليتكنَّ أضغاثُ أقلامٍ ، فلا يُرى من أثركن شيءٌ حين أفزعُ إلى القلم لا حبا فيكن ، ولكن لأرحمَ عينيَّ منكن .
يا ظلَ ألمي ، ونور أملي ، وصَوْبَ فكري ، وصدى نبضي ، أما علمتَ أنك في عينيها شيخٌ هرٍمٌ لك على السطور دَبيبٌ ، وكلما جاوزتَ سطرا نحوها ازدادتْ منكَ نفورا ، ومَنْ يدري لعلها تتصورك في ثيابٍ رثَّةٍ ، وعِمَّةٍ أكل الدهر عليها وشرب ، ولحيةٍ غَبِرَةٍ كثَّةٍ !
قد كتبتَ ثم كتبتَ ، فكان ماذا ؟ تلك منازلُكَ دوارسُ ، أيا قلمي نحن في زمن المادة والعُجْمة ! دراهمُ معدودةٌ تُقوِّضُ ناطحاتِ الخيالِ ، وتُغوِّرُ مناهلَ الفكرِ ، وتُخْرِسُ الأوتارَ ، كنتَ يا قلمُ مِنْ قبلُ مِنْ قلبٍ إنسانٍ بريشةِ طيرٍ على جلدِ حيوانٍ و لِحافِ شَجَر ، كلُكَ حياة ، والآن انظرْ إلى نفسك كلُكَ جمادٌ في جمادٍ .
على أيِّ سطرٍ ستعزفُ يا قلمي ، وصنَّاجةُ العربِ نسيبُهُ يَصُكُّ سمعَ هذا الزمن ، وحِكَمُ زُهيرٍ في مَنْطقٍه هَرْطقاتُ ، وعِفْةُ عنترةَ في طبعه شذوذٌ ، بل هم من النكراتِ في زمنٍ أمسى الأدبُ فيه لعابر السرير ْبعدِ أنْ يَسْتَعِجمَ لبُّهُ وقلبُهُ ولسانُه .
أين منكَ الأدبُ والحبُ مادمتَ عربيا ، ليلاكَ لا يَستهويها إلا نزاريُ الهوى ، باريسيُّ الملامحِ والعطر ، ذَلِقُ اللسانِ يُمطرُها بأقوالِ شكسبيرَ وأحفادِه ، مُتأنِّقٌ في رَبْطةِ عُنقِهِ وحذائِه ، يَحمِلُها على فارِهَةٍ ، ليُسمعَها موسيقا ليس فيها آلةٌ شرقية ، ويهديَها وردةً حمراءَ مستوردة ، ولِيَجوبَ بها كلَّ ذي نجومٍ سَبْع .
فُنِّدَتْ دلائلُ الحُبِّ ، الرجالُ أصفارٌ دونَ بَهْرجِ مالٍ أو جاه ، والحُبُّ حرْبٌ ، غايتُهُ السَّلْبُ ، ووسيلتُهُ مَكْرُ الثعالبِ وتَلَوُّنُ الحِرْباء ، انقضى زمنُ الدمعِ يا قلمي أصبحَ ضعفا وخورا ، انقضى زمنُ السهرِ والوفاءٍ أصبحا هدرا للأعمار ، انقضى زمنُ الحبِ يا قلمي جميلٌ دميمٌ ، وقيسٌ مجنونٌ حقا .
ليتَني مِنَ المهد إلى اللحد في كوخٍ مِنْ حولي نُخيلاتٌ ودجاجات ، أزرع بساعدي ، وأَمَةٌ سوداءُ عجوزٌ تَخْبِزُ وتَكْنُسُ ، الحَقْلُ كوكبي : مِحرابٌ ومَنْجَمٌ ، وملعب ومَخْدَع ... ، أو في خَيْمةٍ سقفي الغمامُ وبُسُطي الرياضُ ، عطري الخُزامى ، ومَطعمي من مِخْلبِ صقر ، ومشربي من ضَرْع شاة ، لياليَّ سراجُها البدر، وموسيقايَ نسائمُ الفجر ...
آهٍ منكَ يا قلمي وآه منك يا زمني ، ليتَني أنامُ فلا أصحو .
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــ
* مَرَيْتَ النَّاقة : إذا مسحْتَ ضرعها باليد لِتَدُرَّ .