راضي الكذاب
يعيش راضي الكذاب حالة نفسية فريدة، لم تشهد لها البشرية مثيلا.
فهو باحث مغمور لا يعرف به أحد، ولا حتى من جيرانه، مثل كاتب المذكرات المجهول في رواية الجنرال في متاهته. مكتبه متراكم بالأوراق المبعثرة والأضابير المملوءة بالشخبطات. ومشكلة راضي الكذاب أنه لا يكذب فيما يتعلق بمذكراته كما يقرره برنارد شو على كل من يكتب سيرته. بل القضية أنه يكذب فيما يتعلق بالأحداث الماضية التي تم توثيقها في التاريخ توثيقا مبرما لا رجوع فيه، لسبب يسير، وهو أن الزمن لا يعود إلى الوراء.
يكذب راضي في المرة الأولى كذبة بيضاء، فهو لا يمتلك كتاب تاريخ عن الحرب العالمية، ولا يذكر ما درسه عنها فعلا، ومن هنا يسجل في مذكرته التاريخية أن:
- هتلر انتصر في الحرب العالمية.
بعد ذلك يصدق كذبته ويؤيدها بالبراهين، وعندما يعترض عليها أحد ذوي قرابته المحبين يقول له:
- المؤرخون كذبوا، أنا أعرف أبناء هتلر شخصيا.
فيقول قريبه المشفق:
- ولكن هتلر لم يترك أولادا.
فيقول راضي:
- إنك تردد ما تقوله كتب التاريخ المزيفة.
بعد ذلك يقوم راضي بقراءة ما كتب عن تاريخ هتلر ويعود ليقول:
- لم أقل يوما ما إن هتلر انتصر في الحرب العالمية الثانية بكاملها. لقد قلت إنه انتصر فيها بمعنى انتصر على فرنسا، وغيرها من الدول الأوربية التي اجتاحها.
إلى هنا لا يزال الامر طبيعيا، فليست الإشكالات هنا، بل في أن راضي عندما يكتشف كذبته فإنه يقدم على محاولة إتلاف الكتب التاريخية الثابتة، التي تخالف ما يذهب إليه من أوهام، دون أن يضع في اعتباره أن النسخ التي يتلفها ليست هي الوحيدة الموجودة على وجه الأرض. متخيلا أن العالم سيعتمد في تلك المعلومة على كتاباته الاستئنافية.
وحصل في حياة راضي ما أصابه بهزة أرضية عنيفة:
لقد بدأ يكتب تاريخا جديدا له ولأشقائه يجردهم من ملكياتهم الشخصية، ويدعي امتلاكهم لملكيات عائلات أخرى.
في هذه اللحظة حصل اضطراب داخلي، وجاءته العائلة بوثائقها وميراثها لتعرضه عليه.
وكالمتوقع قال راضي الكذاب:
- كل هذه الوثائق مزيفة.
بعد ذلك صادف راضي أحد أفراد العائلة التي ادعى أملاكها لعائلته.
وعندما جابهه الرجل بالوقائع قال راضي:
- لم أقل يوما ما إن أملاككم ملك لنا.
قال الرجل غاضبا:
- وماذا قلت إذن؟
قال راضي مبررا:
- لقد قلت إن لنا أسماء متشابهة فقط، قد تجعل أحدا لا يعرفنا يتخيل أن أملاككم ترجع إلينا.
قال الرجل:
- ولكن هذا يخالف ما نطقت به واعتمدته في كتاباتك.
قال راضي:
- لم أكتب شيئا، كل ما كتبته لأجل الآخرين، وليس لأجل ما بيننا وبينكم.
قال الرجل مستغربا:
- ولكن ما كتبته للآخرين سوف ينسحب علينا، وقد يجردنا من أملاكنا.
قال راضي:
- أنت كاهن.
استغرب الرجل مرة أخرى وقال:
- وما يدريك أنني كاهن؟
قال راضي:
- أنت كاهن لأنك تعرف المعلومة التي مسحتها من كتب التاريخ ومن الوثائق.
قال الرجل:
- لكن الوثائق موجودة لدينا وما أتلفته حضرتك هو أشياء نقلت منها، وهي موجودة في بيتك الخاص.
صمت راضي الكذاب مندهشا، فقال الرجل:
- لا بد من محاكمتك على اتهامك لي بالكهانة.
قال راضي:
- لم أقل إنك كاهن، أقسم بالله العظيم الجبار المتكبر أنني لم أتهمك بالشعوذة أو السحر أو الكهانة.
قال الرجل:
- وماذا عن ادعائك لعائلتك ملكية عائلتنا.
قال راضي:
- أقسم بالله العظيم الجبار المتكبر أنني لم أدع لعائلتي امتلاك أي شيء مما يخصكم.
قال الرجل:
- إما أنك مفترٍ أو مجنون.
قال راضي:
- أنت المجنون والمفتري والساحر والكاهن، والعميل، والمشعوذ، وأملاك أسرتك ملك لعائلتي، وأنت تريد أن تشعل حرب قبلية بين أسرتك وأسرتي.
وعاش راضي الكذاب على هذا النحو، إلى أن مات وذهبت كتاباته وتوثيقاته أدراج الرياح، ولم يبق منه شيء يذكر سوى هذه السلسلة المتتالية من الأكاذيب النفسية التي تحار الألباب في تأويلها، لكن بعض ذوي قرابته الموثوقين يحيلون الأمر إلى أن راضي لم يكن يجد أي فرق بين الصدق والكذب، بل وربما بلغ ذلك به في كثير من المرات أن يعتقد أنهما وجهان لعملة واحدة.