كازينو
مرتبك , خائف , متردد...مشحون بأكثر من إحساس...تسكنه كل التناقضات الممكنة و المستحيلة...يعبر الشارع ذهلا وسط ضجيج أبواق السيارات و صيحات استنكار أصحابها غير آبه لما قد يصنعه به ازدحام حركة السير في هذه الساعة من الليل . التاسعة مساء...متحسسا جيبه يدلف المبنى الأنيق غير مكترث لنظرات الإزدراء المطلة من عيني الحارس ذي البذلة الزرقاء وهو ينتقد بها الثياب الرثة لهذا الزائر .
- مساء الخير .
- ......
يتعمد ألا يرد عليه محولا وجهه نحو الجهة الأخرى . يعبر الممر المظلم سامعا من ورائه همهمته الهامسة برأيه فيه :
- ما الذي يأتي بمثله هنا ؟
يتحسس جيبه مرة ثانية قبل أن تلقي به بوابة أخرى نحو الفضاء الصاخب حيث يختلط رجال الأعمال بأبناء الذوات متقاسمين بنات الليل الحسناوات بينهم و قد تفرقوا على الموائد , فمنهم من زاغت عيونهم أمام المراقص التي اعتلت منصاتها الأجساد العارية , و الرجولة لعاب سال من أفواه فاغرة , ومنهم من يثمن رجولته بقيمة القنينة التي يطلبها لمن معه , ومنهم من تصعد أسهم رجولته و تهبط تبعا لعدد الفيشات التي يتداولها على موائد القمار تلك...أما هو فلم يكن يشبه أيا من هؤلاء .
قلب عينيه المتعبتين في كل اتجاه...مرة أخرى تعبره النظرات من رأسه و حتى الحذاء المغبر...ثمة أنثى تغمز له , و أخرى تتفادى الوقوف على مقربة منه , ورجل يرفع كأسه تحية له , و آخر...لكنه هنا لا لأجلهم بل لأجل المال .
يمضي إلى مائدة خضراء تجمع حولها نخبة من الألقاب . أحس بينهم أنه مجرد رقم في وزارة الدخلية . رقم...تحت الصفر .
- عفوا .
قالها وهو يسحب كرسيا محاولا تحصيل فجوة بينهم . للحظات توقف كل شيء من حوله و الجميع يرقبه بنفس الأعين المقيتة . كان يقرأ في صمتها احتقارا بكل اللغات . تململ الجمع لحظات أخرى قبل أن تعود الدائرة مغلقة به .
- كم معك ؟
يسأله منظم اللعب بنبرة جافة .
- ألفان .
- فقط ؟؟
- أجل . إنها تكفيني لأفوز .
عادت النظرات تتقاطع في سخرية صامتة قبل أن ينفجر الجميع ضاحكين , أما هو فقد اكتفى بابتسامة قصيرة عادت بعدها ملامحه إلى حالتها الأولى .
- كم قيمة الرهان ؟
- ألف .
- وعدد الجولات ؟
- اثنتان , بما أنك لا تملك سوى ألفين...هذا أرحم بك . أليس كذلك أيها السادة ؟
- بالتأكيد . أجل .
صاحوا كلهم و الضحكات المستهزئة تصم أذنيه , مع هذا ظل هادئا كأن الأمر لا يعنيه .
- حسنا . لنبدأ .
أخذ يوزع الأوراق باحترافية عالية . وضعت الرهانات إلى جانب من المائدة . العيون تتلصص بعضا على بعض في حذر…الأيادي تستبدل الأوراق في تكتم…الكؤوس لم يجاملها أحد و السجائر لم تغادر الشفاه .
الدقائق تمر دون أن يشعر بها أحد , و القلوب تزيد نبضها الإثارة المغلفة بالصمت .
- حسنا أيها السادة . ساعة الحقيقة . أحدنا فقط سيفوز .
أخذوا يفردون أوراقهم بالتتابع في قلق مرصود وهو الجالس دون حراك كمتفرج ليس يعنيه الربح و لا الخسارة في شيء , وعندما حان دوره أعلن عن نقل مباشر لزيارة رئيس الجمهورية لأحد مستشفيات العاصمة…فلم أستطع متابعة الشريط .