نادر / كاملة بدارنه
جلس وقد عصب التّعب جسمه وفكره، هبّت نسمات رقيقة ناعمة اللّمسات حرّر بها بعضا من روابط جسده المنهك، فحملت أجنحة النّسيم روحه إلى قريتة التي لم يزرها منذ مدّة، وسافر إليها مخترقا ومسترجعا من بواّباتها دروب حياته ...
توغّلَ في زقاق طفولته عازِفا..
نشأ في عائلة ميسور حالها، هانئ بالها، وعال مقامها، فرضع منذ نعومة أظفاره الخلق السّويّ، وكان المميّز على أقرانه وأترابه.
مشى في درب شبابه وتعلّمه منشِدا..
لا يذكر أنّه حادَ مرّة عن جادّة الصّواب، أو عاش نزق الشّباب الذي تباهى به رفاقه، ممّن مازحوه مستعرضين أمامه غراميّاتهم في فترة مراهقتهم، وعلاقاتهم النّسائيّة في شبابهم، وكان ردّه ابتسامة ساخرة، داعيا لهم بالهداية والابتعاد عن سبل الغواية.
غاص في شبابه في بحر نظريّات العلوم الفيزيائيّة التي أحبّ الغوص بين أمواج رموزها وقوانينها!
كلّ ما يهمّه هو التّحصيل العلميّ، وكلّما ازداد علمه نجاحا، ازداد بالله إيمانا وبنفسه ثقة، وازدادت العائلة به تباهيا.
رقصَ في ساحة الثّقافة والعلم جذلان...
لم تقتصر ثقافته على ما يتلقّاه في أروقة الجامعة، بل راح يضيف لزهرات علمه بتلات علوم أخرى. ولشدّ ما أعملت فكره نظرية "فرويد" في علم النّفس خاصّة فيما يخصّ مركبات النّفس البشريّة: "الهو" و "الأنا" و"الأنا الأعلى".
أعجبه التّقسيم لأنّه صنّف شخصه ضمن مَن يسير مُحكِما رسن "الهوَ" القابع في مربّع الغرائز، ومعتزّا بأناه المصقولة على القيّم والمبادئ السّامية والتّفكير الصّواب.
لشدّة إعجابه بأناه، وتحقيق ما يصبو إليه أعجب بجملة "أنت تجذب إليك ما تفكر به معظم الوقت"* واتّخذها مفتاحا لفتح بوّابات بساتين نجاحاته، وكان متباهيا؛ لأنّ نفسه تجذب النّجاح والخير فقط، فيقطف الثّمار اليانعة حسب شهيته، ويتلذّذ بمذاقها. وأجود الثمار طعما وحجما كانت شهادة الدكتوراة...
شبّهه من يعرفه بالعالم الناسك في زمن قلّ فيه النسك والنسّاك. ووصمه الجاهلون حقيقته بالمتخلّف، غير الاجتماعي، الذي لا يجرؤ على مجاراة العصر والنّاس بانفتاحهم، ويقبع في صومعة السّلف واهما أن يسُرّ علمه ومبادئه للخلَف.
جالَ في الغابة مترنّحا ...
لبث مدّة غير يسيرة يكثر من مساعيه المكّوكيّة في المؤسسات الرّسميّة؛ بحثا عن عمل لائق به. ولحسن حظّه تصادف - وقانون جذبه - أثناء جولاته بشخص عرض عليه المساعدة، وتوطّدت روابط الألفة بينهما؛ لأنّه أظهر له قلقه وحرصه عليه ليجد العمل الملائم. فهو عانى ما يعانيه حتّى استقرّ في عمله الحاليّ!
دعاه لتناول طعام الغداء في أحد مطاعم مدينته الفارهة، حرصا منه على إراحة أعصابه، التي تعبت لكثرة ما قرأ من ردود لطلباته التي بدأت بكلمة نأسف...
جلس الاثنان، كلّ ينضح ما في إنائه، وتمخّض حديثه عن قناعته بأنّه سيحقّق هدفه، وسيجد العمل الملائم، لأن القوى الكونيّة العليا سوف تساعده في تلبية رغباته فهو لا يجذب سوى الخير!
تكررت الجلسات والمصارحات بين الزميلين حتى بات يعرف الواحد منهما الكثير عن الآخر.
جلسا ذات مساء في المطعم الذي اعتادا الركون إليه، فلفت نظر نادر الدّكتور في العلوم الفيزيائيّة، أنّ فتاة تجلس قبالته تحتويه بنظراتها، ، وكلّما رفع نظره ووقع عليها، أحسّ أنّها تفترسه بكلّ حواسّها.
اقتربت من طاولة جلوسهما، واستأذنت في المشاركة، فلم يعترض زميله ودعاها للجلوس؛ موضّحا له أنّها زميلته .
شاركتهما الحديث معرّفة شخصها ، ومبدية اهتمامها بالعلوم الفيزيائيّة - موجّهة الحديث لنادر – بعد أن عرفت من زميلها ما يكابده لإيجاد عمل ، وأنّها مستعدّة لمساعدته ؛لأنّها ابنة شخصيّة مرمومة!
عامَ بين أمواج العاطفة والفكر متحيّرا..
لم يدرِ "نادر" ما الذي جرى لدقّات قلبه حتى تسارعت إلى حدّ الإزعاج، منذ أن سقط إشعاع ناظريه على تلك الصّبيّة، التي لم يعترض على اقتحامها المكان، والجلوس إلى جانبه وكأنّها احسّت بالإشعاعات المنبعثة من قلبه وجاءت مطفئة وهجها !
بيد أنّ بعض الشّكوك ساورته فيما يخصّ لهجتها العربيّة غير المتقنة . صارح زميله بذلك عندما بقيا وحدهما، فأقنعه أنّ لهجتها تشير إلى كونها مولّدَة، فهو يعرف أنّ العائلة التي ذكرت انتسابها لها هي عائلة عربية عريقة في الأصالة!
قضى نادر ليلته متململا في فراشه، ليس لأنّه لم يفلح بعد في الحصول على إحدى ضفائر الآمال التي جدّلها أثناء مشواره التّعليميّ، وشكلها بمشكال قانون الجذب، بل لأنّ ضفائر أفكاره التي أحكم ربطها بالنّسبة للعشق والغراميّات بدأت تتفكّك وبسرعة مذهلة دون تخطيط أو تفكير.
انا لا أؤمن بالعشوائيّة والصّدفة. لكلّ خطوة في حياتي مخطّط ، حتّى وإن سارت حياتي على منوال واحد: في الأبحاث والدّراسات. يبدو أنّ الزّميل الجديد الذي يحاول احتلال معظم أوقاتي، قد يغتصب الكثير من ذاتيّتي، ويجعلني مثل أولئك الجامعيين الذين تعبت كثيرا أثناء مخالطتهم؛ للحفاظ على مجالي منهم، وعلى عالمي البرزخيّ الذي ضمّ القلائل ممّن استسغت أفكارهم وطباعهم وطاب لي مقامهم.
وها هو اليوم يسمح لفتاة بالاقتراب مني دون إذني!
يجب أن أفكّر مليّا في إيجاد الوسيلة للتّقليل من لقاءاتي وإيّاه، ربما أعود لبعض الوقت إلى قريتي...
فجأة، قطعت عليه مشاعره دون استئذان من عقله حبالَ تفكيره، وطفت صورة الفتاة إيّاها على سطح مشاعره وأفكاره، فانتابته الحيرة، وحاول أن يعيد المجداف للفكر والعقل. فلا يعقل أن تسمح أناه "للهو" أن يتغلّب على "الأنا الأعلى" الذي يتغنّى به.
لم يجذب العشق إلى محيط رغباته. هو يؤمن بالزّواج في وقته المناسب كحياة مشتركة يسودها الحبّ والتّفاهم . أمّا أن تنفلت الرّغبات من عقال المعقولات، فذاك ما لم يحسب له حسابا. وظلّ مغمورا بمزيج العقلانيّات والشهوانيّات، ولا يدري ما يجذب ولمن السّيطرة؟!...
استقرّ وَ..
لم يستطع العودة الى قريته لأنّ زميله جاءه بأسماء مؤسّسات تبحث عن مختصين أمثاله، وشاركه قرع الأبواب إلى أن وجد ضالّته . وأخبرته فتاته – التي يخشى أن يعترف لنفسه بعشقها - أنّ لها الدّور الفعّال فيما وصل إليه! .
غرق في عالمه الجديد، ورغم كلّ الإرهاق كان سعيدا؛ لأنّه تأكّد أنّه جذب إليه ما يريد.
ازدادت لقاءاته بفتاته؛ لأنّها تشاركه المكان، وازدادت قوة إشعاع قلبه بزيادة الجلسات وإيّاها. كان يحسّ أحيانا أنّها تتقصّد الاقتراب منه. فماذا يفعل؟.. هل يعترف لها بمشاعره متنازلا عمّا يتباهى به، وملصقا حروف ختم الفوز" للهوَ" أم ينتظر منها البوح له بمشاعرها – التي يشعر أنّها تسيّجه – مثلما فعلت إحدى الطّالبات أثناء دراسته في أولى سنيّ تعليمه الجامعيّ ، ورفضت أناه الرّدّ ترفّعا!
مرّت فترة وهو منكبّ على عمله وأحيانا لا يميّز بين الليل والنّهار. أحسّ أنّه يخضع وما ينتجه لمراقبة شديدة، رغم أنّ الخبث لا يجد في جسمه خلية ليعشّش فيها! وأحيانا كان يُمنع من التقاء الآخرين حتى داخل المؤسسة إلاّ بإذن من المسؤولين بعد استضافتهم في غرفة خاصّة.
شعر بالضّيق الشّديد للضّغط الممارس عليه جسديّا ونفسيّا، فجلس والتعب والقلق يخنقان جسمه وفكره في إحدى المقصورات المعدّة للتّحرّر من أعباء العمل ...
ربّتت فوق كتفه يدٌ حانية فتململ واخترق سمعه صوت رقيق يسأله: ما الأمر؟
أفاق وذهل لأنّه وجد نفسه في المكان ذاته الذي وصله أثناء رحلته في سرادقات ومتنزّهات ماضيه! ...
صحا من أفيون مشواره .. استردّ حاضره .. طلب منها الجلوس.. أخرج أكوام الشّوق التي كوّمها في أسطوانات قلبه، وفاجأها بعشقه لها معترفا أنّ طيفها يلاحقه ويمسك بتلابيب أفكاره ومشاعره واستعرض ما يخنفه ، وأنّه لم يعد بالإمكان العيش دونها، واقترح عليها الزّواج بعد تقديم استقالته من عمله الذي أصبحت أشواك أسلاكه تؤذيه، ولم يعد يتحمّل الإرهاق وسلاسل القيود التي تكبّل حرّيته!
فكّري في الأمر مليّا...
علا صوت قهقهاتها السّاخرة مردفة:
يمكن أن تتزوّج مسؤولة في المخابرات، لكنّك لا ولن تستطيع مغادرة هذا المكان أيّها العالم الفيزيائيّ العاشق !.
---------------
* قانون الجذب – كتاب السّر