ـ نهارك نادي...قالت النحلة للزهرة وهي تهبط فوق أوراقها لتشرب من رحيقها ملقية عليها تحية الصباح
ـ نهارك وردي...ردت الزهرة التحية...لم أرك منذ يومين...
ـ مشاغل... نحن الشغالات أعمالنا كثيرة...اليوم جاء دوري لأجمع الرحيق...
ـ ماذا تفعلين به ؟
ـ أحوله إلي عسل مكرر فيه شفاء للناس...أتعرفين ؟؟! لكم تمنيت أن أكون زهرة مثلك...زكية العطر...يهديني حبيب لحبيبه في عيد الحب أو يقدمني طفل لأمه في عيدها...أو أشكل مع رفاقي إكليلاً يوضع علي النصب التذكاري لشهدائنا في كل عيد نصر...
ـ أنا مثلك تماماً...فمهمتي في الحياة هي إسعاد غيرى...بمنظري وعبيري...وقد أموت في سبيل هناء الآخرين...أزين جيد عروس ليلة فرحها...أنتظم في عقد يكلل عنق المنتصر...يقطروننى ليصنعوا من خلاصتي أنواع العطور...فأنا أجمّل الحياة حية أو ميتة...حتي بعد ذبولي يبقي عبيري ...
ـ وأنا كذلك...حتي لسعاتي فيها شفاء أيضا...أتسبب في شفاء الناس بأمر ربي حية أو ميتة ...
ـ لهذا نظمت فيكى زجلا قلت فيه :
ياريتنى نحلة وأفضل أدور بين الجناين وسط زهور
أطير وأجمع وانا مسرور رحيق مسكّر كله عطور
أحوله بإذن الرحمن عسل مكــرر شفا وطهور
ـ الله الله...زجلك في حلاوة عسلي...وأنا سمعت عنك أحلي الأغنيات...
ـ أترشفين رحيقي فقط ؟
ـ لا بل أتوضأ بقطرات الندى العالقة بأوراقك لأصلي لربي شكراً لأنه خلقني نحلة أفيد ولا أضر...
ـ إذن فنحن موضوعات رقيقة لأشعار وأغنيات أرق...النسيم ينقل عطري إلي غيرى وينقلك لتجمعى عسلك من زهرة إلي أخري...فلماذا لا يشعر غيرنا من المخلوقات بحلاوة الدنيا...
تنهدت النحلة تنهيدة عميقة...هزت رأسها في أسي وقالت :
ـ لقد حمّلنى كاتب القصة في زيارتي السابقة رسالة إلي الشهداء المدفونين قريباً من جذورك فهل أوصلَتها إليهم ؟
ـ تلك الرسالة التي تقول كلماتها : يا كل شهيد سحقت عظامه غدراً تحت مجنزرات جبانة واحتضنت الرمال عظامه بذوراً لنصر أكيد هدية لمصر......شكراً علي هديتك ...
ـ نعم أوصلتها وعلمت بعد ذلك أن بعضهم لا زال يذكر أن كاتب القصة هو الذي دفنهم في هذه الأرض المباركة منذ أكثر من ثلث قرن من الزمان ...
ـ ثلث قرن مدة طويلة...لابد أن الناس قد نسوا هذا الموضوع ...
ـ إلا هو............... والشهداء بالقطع ...
ـ وماذا كان ردهم ؟
ـ قالوا : نحن لم نمت...بل أحياء عند ربنا نرزق ...
ـ أتعرفين أن الاسم التجاري للعسل الذي أجمعه هو "شهد الشهيد"......فأنا أجمعه من زهور قريبة من قبور الشهداء...له رائحة المسك وطعم العنبر ...
لفت نظر النحلة عبر الحدود مبني محاط بحراسة مشددة فعادت تسال الزهرة
ـ ما هذا المبنى ؟ أهو معمل لتقطير العطور ؟
ـ إنه معمل يضم علي الأقل مائتي "إكليل" من الورود جاهزة للتوزيع علي كل الدول المجاورة...
ـ امتقع لون الزهرة فجأة .سألتها النحلة السبب .أجابت :
ـ خايفه موت......فجارنا صاحب المعمل لم يوقع بعد على معاهدة حظر انتشار الأسلحة العطرية......بل ويرفض التفتيش عليها ...
ـ الدنيا حظوظ......ماهو دا النظام العالمى الجديد......نظرية الأيّ أيّ......دولة يقلب المفتشون كل حجر فيها بحثاً عن أسلحة الدمار الشامل......ودولة بجوارها ممنوع دخول المفتشين أراضيها...
ـ إيه نظرية الأيّ أيّ دي ؟!
ـ باختصار : أيّ واحد قوي محمي يقدر يعمل أيّ حاجة في أيّ حد في أيّ مكان وأيّ زمان مافيش أيّ حد يقدر يعمل له أيّ حاجة ...
ـ دا موش نظام عالمي دا "حظ عوالم" ...
ـ فعلاً فقد دمروا معملاً في الدولة التي يقلبون أحجارها لأنهم شكوا أنهم شموا رائحة عطره.واليوم يهددون دولة أخري بتدمير معاملها
ـ أخشى أن يدمروا معملنا...
ـ معملنا مخصص للأغراض العطرية ومع ذلك يقتلون بعض العاملين فيه...
ـ الله يرحمهم...
ـ ويرحمنا إحنا كمان...
ـ لقد أرسلت ذات مرة علي احدى أوراقي وبمداد من رحيقي رسالة تحذير لأن هذا المعمل سبق وأن أرسل إلي بعض إشعاعاته...بعدها أعلن العاملون فيه عن تسرب هذه الإشعاعات بسبب هزة أرضية...
ـ إنه يقع في منطقة زلزالية وهذه الهزات أصبحت تحدث كثيراً في الآونة الأخيرة ...
ـ ربنا يستر
ـ كما ستر سبحانه من قبل...أتذكرين يوم كادت النفايات "العطرية" تدفن في الجنوب الغربي...الحمد لله أنهم لم يفعلوا ذلك فالمنطقة اليوم مجال مشروع قومي كبير جداً...
ـ أو يوم كادوا يحصلون علي مياه النيل ...
ـ ربما يحتاجونها ليستخدموها قبل صلاتهم...
ـ أو لغسل أيديهم الملطخة بالدماء ...
ـ بالمناسبة...ماذا حدث بعدما قتل أحدهم ثلاثين مصليا أثناء سجودهم فجراً...فقد كنت مريضة لم أتابع الموضوع ؟
ـ شجب وإدانة ...
ـ وعندما قتلوا مائة مدنى وهم يحتمون بمبنى للأمم المتحدة ؟
ـ نظرية الأي أي ...
ـ ألو متنا الآن غدراً تري أيشجبون ويدينون أيضا ؟
ـ لا أعتقد...فلقد نسوا حتي الشجب والإدانة
...
عادت النحلة بعد عدة أيام لزيارة صديقتها الزهرة فلم تجدها...لقد سحقت الزهرة ...لا من أجل الآخرين فهم لا يستحقون أن تسحق من أجلهم...سحقت وبادت لكن عبيرها ظل يملأ الأثير......سقطت النحلة ميتة حزناً علي صديقتها الزهرة البرية البريئة...سقطت حزناً بعد أن غمرت المكان رائحة غريبة آتية عبر الحدود ...
________-
مهداة إلى الحبيب:د. سمير العُمريِّ