يوميات الرئيس الجديد
لقد دخلتُ صباح هذا اليوم في نوبة من السعال المتكرر .
أواه ! لقد سقط كل شيء في الظلمة .
أحسُّ كأن شيئا ما كامن ٌ في السعلة يحاول جاهدا أن يبحث عن شيء في أعما ق رئتي ! وكأن شيئا ما كامن ٌ في رئتي يدفع بكل ما أوتي من قوة طغيان الضغط الهابط من أعلى !
ومابين الضغط بقوة إلى أسفل , والرفع بجنون إلى أعلى , تكاد روحي الجليلة أن تقول لي : مع السلامة ياصاح !
إنني حينما أرجع إلى وعيي من هول ما أنا فيه من نفيخ ! فتنقشع عني السحب السوداء وتأخذ رئتي في الانقباض نتيجة عملية الزفير أفتح عيني فأرى كرات صغيرة تنتشر بالقرب من عيني تحديدا متحركة ًببطء في كل اتجاه , وأرى في داخل كل كرة من تلك الكرات دبابة حربية صغيرة ! وكأني أشاهد فيلم آكشن ! لقد تأكشنت ُ ياجدعان !
أجل ! لابد أن هناك في السعلة من يبحث عن شيء ضائع في شعبي الهوائية . من يدري ربما هناك من أضاع جزمته ؟!
وفي أثناء تلك النوبة الضارية من الكحة يظلم عليَّ المكانُ ساعة . ولا أدري حينها أتوقفت رئة الزمان فجأة فأنا خارج الزمان ! أم لاتزال رئة الزمان تضخ بالحياة كما هي ! فأنا لا أزال على النضال موجود في حدوده ! إنني أسمع قرقرة مداعة !
نعم ياصديقي ! في تلك اللحظة التي أنفخ فيها التراب من قفصي الصدري إلى الخارج أو ربما ينفخني التراب إلى قفصي الصدري إلى الداخل . وفي تلك اللحظة التي أنحني فيها برقبتي كما تنحني السنبلة أحس أن حمارا حاقدا قام برفسي على حين غفلة ! أو أن مصباحا قد قرح في رأسي ! إنني في تلك اللحظة أفقد فيها هويتي الشخصية ! وخريطتي الطبوغرافية ! فلا أدري أأنا في خيمة مظاهرات أم معلق بسيارة شاص ؟! غير أني على يقين من أني لستُ على كرسي الرئاسة ! كرسي الرئاسة ؟ وطنت هذه الكلمة في رأسي كما تطن جرار الغاز في محلات التعبئة !! أها ! كرسي الرئاسة ؟ قلت في نفسي لم لا أكون رئيسا ؟ لقد جربت حظي في الحياة فما نجحت ُ في شيء ! جربت ُ التدريس . ولأني كنت ُ مخالفا لميول المدير الحزبية فقد قذف بي إلى الصفوف الدنيا . ولم يكن المساكين الصغار في فصل وإنما كانوا في زريبة حمير ! فضاقت بي الدنيا كما ضاق بي صدري ! ولقد جربت ُ الغربة . فما وجدت الغربة إلا غطاء نغطي به فشلنا في الحياة ! ولقد جربت ُ الإدارة . فما كانت نقمتي منها كما كانت نقمتي من الإداريين أنفسهم ! تتعين لديهم محاسبا ! فتعمل محاسبا وسكرتيرا وسائقا خاصا ومندوبا ومسوقا ثم بعد كل ذلك لا تجد حتى ورقة تعريف ! أو شهادة خبرة .
نعم لم َ لا أكون رئيسا ؟!
- ما المانع ؟ كان هذا التساؤل صادرا من صوت ٍ قريب ٍ مني ولكني لا أرى صاحبه !
- قلت بصوت مرتفع ! هل لابد لرئيس الجمهورية أن يكون معروفا بين الناس ؟! من كان يعرف هذا الرئيس الأبله قبل أن يكون رئيسا ؟
- صدقني لو كان أبلها ً كما تقول ماظل رئيسا قرابة ربع قرن ! إعقل ! قال صاحب الصوت ماقال ثم غرق في الظلام !
دهر ٌ ليس كأي ِّ دهر ٍ يمر على رئيس ! رئيس في ظلمة القلعة ينتظر فيها عدالة السماء ! ورئيس تنام أغاني الحقول في شعبه الهوائية لا تكاد تفيق ! إلى متى هذا العناء ؟!! لقد ابتلعت الظلمة كل شيء !
آه ! آآه ! كيف سأصلي بالناس صلاة العشاء وأنا على هذه الحال ؟!! قد تتصدع الجدران من صدى السعال على المايج وربما ينفجر الجهاز ؟! وبدلا من أن نجهد أنفسنا في لقمة العيش ندفع من أنفسنا لإصلاح الأجهزة !
ليس وضع المالية اليوم كما كان في السابق . كيف ؟! كان حال المالية في تصور الناس كحال الذي يخطب طفلة يمنية إلى غني ٍ من أغنياء الخليج !! لقد صار كل شيء مزرور ! مافيش يامه ارحميني .
أرسلت ُ إلى صديقي الوزير ببيتين من الشعر الهزلي فقلت مخاطبا ربي مسليا عن نفسي :
إن كان لا يشفي سواك , فهب لنا منك الشفا
الصدر يسعل بالهلاك , والقلب شنكع من قفا !
فاتصل بي فورا وقد أخذته نوبة ٌ من الضحك المتنكوع ! قائلا لي باللهجة المحلية الحلوة : فخامة الرئيس ! قرّص العافية ودعمم ! قلت له وأنا أسمع صوت الركاب من جواله يبدو أنه كان يشتغل خارج الدوام ! لقد تعادلنا : أنت معك قرّص وأنا معي انكع ! تضاحكنا قليلا ثم مالبث أن اختفى الجوال من يدي ! لقد ابتلعت الظلمة كل شيء !
لقد أخذتني هذه النوبة الهستيرية بعيدا . لا أقول بعيدا هناك إلى الفضاء ولكن بعيدا عن أصدقائي وصديقاتي ! صرت على لا أرد على المكالمات ولا أخرج للصلوات ولا أستقبل الوفود ! حتى لقد ضرب الحراس طوقا أمنيا على المنطقة بحجة الحرص على سلامة صاحب الفخامة ! لقد تحررنا من كل شيء . ألا نستطيع أن نتحرر من هذه الألقاب ؟! صاحب الفخامة ! صاحب الجلالة ! ولا أدري حين يلفظون بهذه اللفظة (صاحب الفخامة ) أيعنونها حقا ؟ ألا يستطيع كل إنسان في الدنيا أن يكون صاحب فخامة في اعتزازه بدينه ووطنه؟!
ياوزير الإعلام ! نعم سيدي ! كيف يستطيع المذيع أن يلفظ بلفظة (صاحب الفخامة ) بتفخيم الخاء ثم لا يغرق في الضحك ؟! أوه ! سيدي لقد أصدرنا تعميما وبمعاونة وزارة الصحة الماليزية على توزيع أقراص طبية (تحاميل) يأخذها العاملون على القناة الفضائية, وهي سريعة المفعول كشربة السنا , ليستعينوا بها على مثل هذه الأمور ! أوه ! لقد تقدمت ماليزيا كثيرا ! الحمدلله إذن أني لم أكن مذيعا !
هبط ليل النابغة موجعا صامتا كئيبا يسعل على صفحات البوادي والقفار بحروف معذبة !كان باب المدينة شامخا في السماء لم يكن هناك شيء يلهو غير أضواء السيارات ! ذهب الجميع إلى النوم لا تزال رئتي عالقة ! لقد بدا كل شيء واضحا حين كان كل شيء يغرق في الظلمة .
طارق السكري
17 اكتوبر 2011م