تمتدّ حبال الزّينة متجاوزة ساحة البيت لتصل الشّارع، وتلفت أنظار المارّة الذين يعتريهم الفضول والدّهشة لمعرفة المناسبة...
الكبش يذبح على عتبة البيت الكبير، والزّغاريد يهزّ صداها جدران البيت، وأطفال الحارة يُرشّون بالحلوى والنّقود؛ فرحا بقدوم المولود الذي انتظرته العائلة، وخاصّة الجدّ الذي غلب بياض شعر شاربه سواده لطول الانتظار .
هو الحفيد الذي سيحمل اسمه، الذي خشي عليه من الدّفن، دون أسماء رجال عائلته، فابنه الوحيد بين السّبع البنات، رزق بذكر بعد الثلاث الإناث وبعد الإجهاض المتكرّر للأجنّة الذّكور.
استُقبل المهنئون طيلة الأسبوع، ومُدّت الولائم، وسمع ديوان من الأدعية رغبة في طلب التّوفيق والعمر المديد الرّغيد.
غيّبت لهفة الجدّ وفرحته حضوره عن زائريه. فكان ينسى الرّد بمجاملاته المعهودة، حتّى يلمزه ابنه الذي لا يفضّل أن يطغى حديثه على حديث أبيه.
لقد طُويت كلّ صفحات الانتظار والتمرّغ على أضرحة الأولياء الصّالحين، وستحبس الدموع التي ذرفت سرّا في مآقيها؛ لأنّ عيب الرجال دموعها. ولا ينقص سوى التّخضيب بالحنّاء، وزيارة الحفيد لمقام سيّدنا الخضر، المكان الأخير الذي نذر فيه الجدّ.
أنشدت السّعادة مواويلها، وطوّقت البيت بحروفها ومزاميرها، حتّى مرور الستّة الشهور الأولى بعد الولادة، دون الإحساس بشطبها من سجلّ أيّام حياة العائلة عامّة والجدّ خاصّة. وإذا بأمّ الصّبيّ تستنجد بأبيه وبالجدّ وبالجميع؛ كي يرَوا وليدها المنتفض بين يديها، وحرارة جسمه الذي تتحسّسه تكاد تدفئ الغرفة.
كان الجدّ أوّل الوافدين هلِعا محوقلا ومبسملا وصائحا بزوجته أن تذهب لإحضار الجارة العجوز (أم صالح) كي ترقي الرّضيع.
إنّ قلبه يحدّثه ويقطع عليه تفكيره ويستحضر كلام "الدّاية" التي كانت تزورهم بعد أن تجهض كنّته قائلة له: إنّ "التّابعة" من الجن تسبّب إجهاض الذّكور دون الإناث. إذن، ربّما ستحاول خنق الرّضيع حفيده !
لا. لا يستطيع أن يتحمّل هذه النتيجة...أسرعوا لإحضار أمّ صالح.
وصلت الرّاقية تكاد لا تستطيع التقاط أنفاسها، فهي تحترم الجدّ كثيرا؛ لأنه يبسط لها يده كلّ البسط ، ويسهر أحيانا لحمايتها، عندما تخبره أنّها تحسّ بحركات للّصوص حول بيتها.
طلبت كسرة من خبز القمح، وبدأت تقرأ فوق الرّضيع الذي وضعته في حضنها، واهتزاز يدها يكاد يوقعه، ويدها الثابتة تُمرَّر فوقه ثم تُنفض لنفض الأذى عنه.
" أوّلها بسم الله، ثانيها بسم الله... عاشِرها بسم الله... لقاها سيدنا سليمان في البريّة ، قال لها ايش تكوني يا لاعنه يا ملعونه قالت له: أنا العين العينيّه ، انا التّابعه الرّديّه، باخذ الولد من سريره...."
تدفقت كلمات الجملة الأخيرة عبر قنوات أذنيه سيولا تحمل كتلا صخرية مسنّنة، تمزّق حواشي هذه القنوات، فأحكم إغلاق مداخلها ريثما تنهي الجارة رقيتها الشّعبيّة، ويطمئنّ على حفيده.
يقف الجميع واجمين، ورياح القلق تعصف بهم دون تحريكهم، عدا الأم التي قذفتها أمواج الخوف والحيرة صوب رجليّ ابنها، تمسك بهما خوف أن يهرب منها، وهو الرّضيع الذي يلازم السّرير.
تنفّس الجمع الصعداء عندما طمأنتهم أم صالح، بعد أن حوّطته ببركاتها وبرقيتها المعهودة التي تبعد بها "أم الصّبيان" عن الأطفال.
لكنّ قلب الجدّ غادرته السّكينة التي سكنته منذ ولادة الطفل واستكان إليها، غادرته ليحلّ محلّها الارتباك والانقباض!
نبشت ذاكرتَه الحكاياتُ التي تناقلها سكّان الحارة عن البيت القديم، الذي يسكنه الآن هو وعائلته ، حيث رمّمه بعد أن اشتراه من أحد الوجهاء الذي غادره إلى وجهة أخرى. ودارت يومها الشّائعات على الألسن بأنّ البيت مسكون بالجانّ الذين أجبروه على مغادرته بعد أن فقد ثلاثة من المواليد أحفاده، وكاد يفقد عقله.
تذكّر يوم اشتراه متحدّيا كلّ الخرافات والشّائعات، ورمّمة تاركا غرفة المؤونة التي خزنت فيها أطنان القمح وخوابي الزّيت، على حالها.
"ترى هل يعقل أن تكون هذه الغرفة المهجورة بيتا لأولئك العفاريت الذين يغادرونها متى شاء لهم، ليطوفوا في بيتي أرواحا شرّيرة تؤذي صغاري من الأحفاد، مثلما طال أذاهم أحفاد صاحب البيت ؟!...
تساءل الخوف الذي يعتصر قلبه وعقله؛ علّه يخفّف من وطاة ما يغوص فيه من سوداويّة أفكاره ومشاعره، بعد أن اشرأبّت الأماني تزاحم الغيوم في عليائها، لحظة صرخ حفيده معلنا للملأ قدومه وتخليد اسمه...
لا شكّ أنّ البحث عن إجابة لتساؤلاته وعن حلّ اللغز الذي تناثرت رموزه أمامه، سيخفّف عنه ويجعله يمسك بعكّاز الأمل الذي يسنده!
" لا يستطبع جنيّ أو إنسيّ حرماني من شجرة أحلامي التي أخضبت حديثا، سأهدم هذه الغرفة فوق رؤوس تلك الأشباح التي تغافلني وتحاول اقتلاع ما رويته من عصارات عمري وجسمي".
أرسلَ في استدعاء أحد العاملين على آليات الهدم ، لينفّذ ما عقد العزم عليه في الصّباح الباكر.
بات يتأمّل تلك الغرفة الصّغيرة، ولا يعرف لماذا لم يدمجها وبيته؟
حتّى إنّه لم يحاول الدّخول إليها لمعرفة ما فيها.
جذبته أفكاره ثانية صوب من يسمّون "عُمّار" المكان بل "هدّامه". ربما حجبوا عنه الرّؤية الصّحيحة كي يعيثوا في البيت فسادا، لذلك لم يقم بإصلاحها واستعمالها. واستحوذت على فكره صورة العجائز اللواتي ردّدن على مسامعه أنّ زوجة ابنه تفقد الأجنّة من الذّكور؛ لأنّ تابعتها من الجنّ تقتلهم! .
يومها ثارت ثائرته عليهنّ واتّهمهنّ بالخرف .
لا. لن يتهمهنّ بعد... سيصدّق ما يقلنه؛ لأنّ أولئك الملعونين، أعوان ابليس، ربّما يحاولون خنق حفيده، الذي لم يتوقّف عن البكاء حتّى بعد رُقية أم صالح واستدعاء الطّبيب .
سيهدم مكان سكناهم؛ ليتخلّص منهم ولن يترك البيت مثلما فعل صاحبه.
فيما كانت أفكاره تطوف به، سمع أنينا يعلو صوته، وتنتشر موجاته عبر ساحة البيت. تحقّق من المصدر فكان الغرفة التي ينوي هدمها.
"أيعقل أن يكون هذا صوت عزيف الجن الذي خبّرتني عنه العجائز وسكان الحي؟ والذي بسببه هُجر البيت؟... كيف لم أعر هذا الأمر اهتماما منذ تزوج ابني؟...
متى سيلج النّهار في الليل وتتبدّد هذه الظلمات جمعاء؟!... ما أطوله من ليل!
أضاءت خيوط نور الشّمس أفق البلدة، فلبّى صاحب آلة الهدم طلب الجدّ مسرعا. وما إن بدأ صوت الآلة يعلو، حتى أرعدت أصوات النّساء مبتلعة الأصوات الأخرى بولولتها وصراخها، وهي متحلّقة حول الأمّ التي تحاول إرضاع ابنها قسرا ، فلا يفلح في التهام ما يفيض من ثديها، ولا يحرّك ساكنا! وترفض إبعاده عن صدرها .
تنبعث الأصوات من داخل البيت، لكنّ الجدّ لا يريد أن يصغي لها .
خفَتَ صوت الآلة، فسمع الجدّ عويلا يخرج من داخل الغرفة التي ينوي التخلّص منها. أنصت وتتبّع المخرج حتى وجد الحنجرة التي ينطلق منها هذا العويل . وإذ بقطّة تحاول حماية صغارها تنوح وتئنّ فزعا من الحجارة التي تكوّمت حولها . هجم عليها محاولا قتلها، فزادت من شراستها وضاعفت من صراخها هي وصغارها .أمر العامل أن يرمي بالحجارة صوبها لقتلها؛ لأنّ الجنّ يتجسّد في القطط ، وقد حان الوقت للتخلّص منه. فها هو أمامه، ويجب قتله قبل أن ينال من حفيده!.
تدفّقت داخله أنهار من الزّهو والفرح، وهو يحمل الجنّ المقتول متّجها صوب حفيده ليُريَه غريمه. لكن، لحظة وصوله انفجرت تلك الأنهار وجرت دما ودموعا، وتدحرجت وحجارة الغرفة الملعونة، جارفة معها كلّ بلّورات سور الأحلام والأمنيّات والنّذور، حين استقبله حمَلةُ حفيده معزّين بكلمات قطّعت الغصّة حروفها:
"عوضك على الله. "هو الحيّ الباقي".