وتَمَّ خِتَامُ العَام
بسم الله الرحمن الرحيم
عَامٌ مَضَى مِنْ عُمْرِنَا وَتَصَرَّمَا
نترك وراءنا العام الهجري الثاني والثلاثين بعد الأربع مئة والألف بحلوه ومره ، بسعادته وشقاوته ، وبعسره ويسره ، نتركه والذكريات تحفنا ببهرجها وهالاتها ، وكلٌ يتذكر ما يريد وحسبما يريد .
في العام الماضي سالت الدماء العربية في شتى الميادين ، وفقدت الأمة الكثير من أفرادها ، وأصيب عشرات الألوف ، وأعيق منهم من أعيق ، وتيتم خلالها من تيتم ، وترمل من النساء من ترمل ، وما هذا الذي عددته سوى الخسائر في الجانب البشري ، أما الجوانب الاقتصادية والبنى التحتية وغيرها فحدث ما شئت عنها ولا حرج .
يسمي الغارقون في الهيام العربي ، والملقون بأنفسهم تحت أقدام نفر من ذوي المصالح الحزبية ، واللاعبون بهم من ذوي السياسات الشرقية والغربية هذه الحقبة الدامية بـ ( الربيع العربي ) .
أي ربيع والأبناء والبنات والخيرات تهوي وهي ناضرة ، أي ربيع والبُنَى التَّحْتِيَّة - مع سوئها - تدمر مما يزيد الوضع المتدهور سوءً ، أي ربيع والأمن يُرَى كالسراب الصحراوي للمنقطع الفاقد الماء منذ زمن .
أتعجَّب حين أرى الناس يبشّر بعضهم الآخر ، مع أن الصورة لم تتضح بعد ، والرؤى لم تزل بعد حالمة ، والخطوات متعثرة ، والهُوَّة متّسعة لتُسْقِط الفرحين والمتشائمين معا في غياهب الاقتتال الحزبي والطائفي والعرقي .
إن المجتمعات العربية تسعى كقطعان الضأن يسوقها فرد ، ولكن الفرد الذي يكون مع الضأن هو راعٍ ، ويصدق عليه مسمى الراعي ، يسعى لمصلحتها ، ويدافع عنها ، ويسهر لأمنها ، أما من يسوق الأفواج العربية هو فرد أيضا ، ولكنه كالسابقين له من الحكام ، يسعى لمصلحته هو وأعوانه ، وإن زاد خيره فسيشمل أفراد حزبه ، وإن عمّ نفعه فسيملأ مراتع طفولته وشبابه ببعض الخير الذي يتحكّم فيه كما تحكّم سابقوه .
إن الأمة العربية هي أمة يتلاعب بها كل من أراد أن يتعلّم التلاعب ، فالحكام العرب - سلفا وخلفا - كمن يتعلّم الحلاقة على رؤوس اليتامى ، والسياسيون الغربيون يتسلّون بنا كلما ملّوا من أوضاع بلادهم السوية وغيرها ، ويمرغون أنوف العرب بالتراب كلما أرادوا أن يشغلوا شعوبهم قليلا عن مشاكل بلادهم الداخلية أو الخارجية ، ووصل الحال بنا أن بدأت إيران – ذلك البلد الذي لا يحسن أن يسوس بعض البَهَم ( صغار الضأن ) – تمارس فينا بعض تجاربها القذرة ، وتهيّج بني طائفتها ، ومن انضوى تحت عباءتها ، لتنفيذ خططها ، والتغطية على برامجها النووية .
إن العرب أمة حزينة كئيبة ، تفرح وتبتهج بأن لم تُصْفَع على وجهها سوى صفعتين ولم تكن ثلاث ، وتقيم الولائم الفاخرة حينما تهان بوطأة قدم واحدة لا اثنتين ، وتجدها ترسل البشرى لأن حقوقها سَتُسْلب منها مرة أخرى ؛ ولكن هذه المرة من أناس آخرين .
إن رموز الثورات العربية لو أعدنا استماع خطاباتهم ؛ ثم دققنا في أفعالهم ، لوجدناهم أبواقا فقط ، تزعج من حولها دون أن تحرّك ساكنا .
هؤلاء الأفّاكون الكاذبون المتحذلقون ، أسمعونا من شعاراتهم الشيء الكثير ، ولكنها أقل من أن تكون حبرا على ورق .
ادّعوا في اليمن حماية الثورة ، ولكنهم تترَّسوا خلف متاريسهم حينما قصفت تَعِز ، ولم يكن لهم حينها أن ينطقوا ببنت شفة ينقذون بها الموقف والشعب .
وفي مصر ؛ تجد المصالح الحزبية تقدّم على مصالح الثورة – فيما يزعمون – ، فتجدها جلية في أيام الجُمُعَات ، وتستمع بعد كل جمعة تختلف فيها المصالح إلى مهازل الأحزاب في برامج القنوات المصرية الحوارية .
في الزمن الغابر ثار العسكر على الملكية ، وأطلقوا من الشعارات الكثير الكثير ، ولا يخفى على متابع ادعاءات عبدالناصر بإلقاء إسرائيل في البحر ، وهلم جرا مما ينعش الأذهان البسيط الحالمة من الشعوب العربية ، وشوّهوا حينها الملَكِيات في تلك البلدان حتى جعلوها ممالك شيطانية يجب حربها ، والتعوّذ كلما تمّ ذكرها في المجالس والمنتديات ، وفي أيامنا هذه ؛ أُعيدت قراءة التاريخ ، وأظهرت بعض الحقائق التي حُرِّم إظهارها سابقا .
واليوم ثارت الشعوب على حكم العسكر في مصر وليبيا واليمن ، وسيخلفهم في هذه المرحلة فيما يظهر للمتابع الإخوانيون – أتباع جماعة الإخوان المسلمين - ، وسيفعلون ما فعل العسكر بالملكية قبلهم ، من تشويه للسمعة ، وإخافاء للحقائق ، وتزييف التاريخ ، وإضفاء صبغة النزاهة على أنفسهم ، وقدسية جميع ما يقرونه ، ومطابقة كل ما يفعلونه للمنهج النبوي الشريف .
وها هم حصلوا على أغلبية في تونس ، وصرّحوا حينها بأن الدولة ستكون علمانية ، وفي كلمة مسجلة لأحد قادتهم ؛ أعلنوها صريحة - وهم يزكون بذلك أنفسهم وما سيقرّون وما سيفعلون – بأنها ستكون الخلافة الإسلامية الراشدة السادسة .
والمشكلة هنا ليست في الإسلام ؛ ولكنها في الإسلاميين ، فالإسلام دين الله الكامل الحق ، الذي نزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ليكون نبراسا للناس ، ومنهج حياة ، وطريقة حُكْم .
المشكلة التي ستواجهنا في الهوى الذي يريده الإسلاميون وليس في الإسلام .
المشكلة التي ستواجهنا في الطريقة التي سيمارسها الإسلاميون في تسيير الحياة والدولة ، وليست في المنهج النبوي الشريف .
سنرى أياما عصيبة على الأمة ، تفرض فيها أقوال علماء ، ويجبر الناس على اتباعها في ممارساتهم الحياتية ، ويعاقبون على مخالفتهم لها ، حتى لو اتبعوا في أفعالهم الخاصة أقوال علماء آخرين معتبرين .
سنرى في الأيام القادمة حركات تطالب بحقوق أمم تسكن في البلدان العربية ، فهاهم الأكراد السوريون أخذوا يرفعون مطالباتهم التي ستصل إلى الحكم الذاتي كإخوانهم في العراق .
سنرى في الأيام القادمة مطالبات طوائف من داخل البلدان العربية بفصل مناطقهم وأقاليمهم عن حكم البلد الأصل ، كما طالب بذلك أهل البصرة وجنوب العراق .
كل ما سنراه مما سبق ذكره سيأتي بعد أن تنتهي مهازل مطالبات الثورة ، التي لن تنتهي ما دام هنالك غوغاء ، يتبعون كل ناعق ، ويسيرون خلف شعارات أحزاب ليس لها من المصداقية إلا كما كانت من حكامهم السابقين .
وفي الختام أظن تسمية ربيع على هذه الحقبة هي تسمية مضللة ، فالدماء تسال ، والأرواح تزهق ، والثروات تدمر ، والأقاليم ستنفصل ، وكل هذه الأمور لا تتطابق مع الربيع ، بل مع الخريف الذي يسقط من الأشجار كل ما عليها من أوراق ، وتخرج من مواطنها الطيور لهجرتها ، وتستعد بعدها الديار لسكون كئيب ، وسبات عميق قد لا نصحو منه إلا على ما هو أشد وأنكى .
باسم الجرفالي
29 / 12 / 1432هـ