بين أحضان الانبساط
من فرط اهتمامي بمهجتي ، والسهر على راحتها ، وتوفير معظم طلباتها، ألفت الاتكال والكسل ، وركنت إلى عيش الرفاه والدلال .فشبت عن طوق العوائد ، وأضحت بارعة في التسديد واقتناص الطرائد .لما أخذت أشعرها ببعض واجباتها ،ضاقت بالعيش معي . وتاقت لتقيم في فضاء طليق ،لا تسيجه جدران ، ولا تظله سقوف . ولا تقيد الحياة فيه ضوابط ولا قواعد .فتوقعت العثور على السعادة بين أحضان الانبساط .وعلى اليمن في مدى القدرة على قطف ثمرة الانفصال .والحرية كامنة في رفع الحرج ونزع الكلفة .تود أن تغدو وتروح بلا مراعاة ، ولا اعتبار ، ولا وقوف عند ما رسم الكبار .
اغتنمت أول غفوة أخذتني فيها سنة إلى هدوء استرجاع الأنفاس ، استعدادا لاستئناف السعي ، فهرولت ، ونطت سابحة في فراغ مدلهم .تشدو ترانيم الفرحة ، ترفرف بأجنحة الفراشة المبهورة بضوء المصباح .تملأ الفجاج الخالية بذبذبة الصفير .ترقص في مناسبات لا متناهية .تتعقب أسراب الخفافيش المفزوعة ، النائمة في حضن مقلها .تقطع المسافات الخيالية في لمح البصر . تفقدتها . أجهشت بالندم . تتبعت أثرها . بعثت في أثرها شرارات مقلتي .إلى أن وجدتها تواسي غصنا يتيما مصلوبا ، تدلى رأسه واندلقت اطرافه ، فغطت وجه صخر سقيم ، مقيم على حافة المنحدر السحيق ، ترتجف وريقاته تجاوبا مع هبوب ريح لافح ، فبدا المصلوب كمن يبعث إشارة المودع المحتضر .صك سمعها غرغرة الأنين .فانتقلت وقصدت أهذاب خيوط مرجانية متلألئة ، تلحفت برداء الأشعة المتسللة عبر الشقوق ، مدت هياكلها جسورا تمر عبرها سلسلة قطرات ماء زلال منعش .يبدو أن مهجتي تاهت في نشوة بين نتوءات صخورالمنحدر ومنعرجاته وكهوفه .شروق يومها تنكر للمغيب . فأصبح نهارها سرمديا ،وليلها غارت نجومه فتوغل في بيدائه .ترى الهوة سحيقة ، وتجد الفضاء شاسعا .لمحت ومض لهفتي يجوب أفقها ، فتنكرت له ، ولم تأبه به ، ولا أعارته أي اهتمام .لا ترغب في الالتفات إلى الخلف .بهرتها ألوان الطيف ، فذابت وسط ركام السحب .ملأ صدى صوتها المكان ، مرددا :أتوق إلى الإبحار بعيدا ، لترميم أنامل الشعاع ، وإعادة ترتيب خيوط نسيج الهلال .فأجبت قائلا :لا مناص من رشف الألم وتجرعه ، وازدراء مغصه .
لم تعد الأمواج بعدها رحيمة بقاربي المرتجف. .غرق الاسطرلاب ، تعطلت البوصلة ، عبثت الرياح بأضلع الشراع ، مزقت السنون أرديته . ووارى قصف الرعد جثث ذكرياتنا ، ولم يبق سوى الترنم بعذوبة رجع صوتها ، كهدير .انتابت أطرافي رعشة الملسوع بقر السموم ، تيقنت من حصول أمر جلل ، فهمست أنا في أذني :قررت أن ألحق بها ، لا عيش لي بدونها . وضعت كفي فوق صدغي ، أغمضت عيني ، أغلقت منافذ حدسي ، وأصخت للنداء بسمع صاخب .استلقيت بقفزة خلفية من شاهق وسط أمواج الظلام الدامس .
ملأ الإشفاق جوانحي ، أخذت طريقي عبر سفوح المنحدر المترامي في الأفق ، الممتد على مساحة مد البصر .السرعة جنونية فاقت كل تقدير ، توقفت معها دوالب التفكير ، وتعطلت أدوات التوجيه والتحكم . حتى عانقت أديم الردى ، ووقعت بعنف على حافة أكمة صلدة ، فتناثرت أطرافي ، وانتشرت شظاياي في الأرجاء .
انكشف الحجاب وعن اصطلامي ، فشاهدت في المكان أكداسا لأذرع ممزقة تنزف دما فائرا ، ولأرجل حافية مبتورة الأنامل ، وأسنان حادة شرهة متآكلة ، وبقايا آذان متسترة تسترق السمع في حذر ، وبقايا ألسن تئن بصوت خافت ، تستغيث وتلح .. ولا مجيب ...