الطّريقةُ الْمُثلى هي المحمّديّةُ
قال أحمدُ بنُ أبي الحواري : قلتُ لراهبٍ في دَيْر حَرمَلَة ، وأشرفَ من صومعته : ما إسمكَ ؟ قال : جُريج . قلتُ : ما يَحبِسُك ؟ قال : حبستُ نفسي عن الشّهواتِ . قلتُ : أما كان يستقيمُ لك أن تذهبَ معنا ها هنا ، وتجيءَ وتمنَعها الشّهوات ؟ قال : هيهات !! هذا الّذي تصفه قوّةٌ ، وأنا في ضَعفٍ . قلتُ : ولم تفعلُ هذا ؟ قال : نجدُ في كُتُبِنا أنّ بدَنَ ابنِ آدم خُلق من الأرض ، وروحه خُلِق من ملوك السّماء ، فإذا أجاعَ بدَنه وأعراه وأسهرهُ أقمأهُ نازعَ الرّوحَ إلى الموضعِ الّذي خرج منه ، وإذا أطعمه وأراحهُ أخلدَ البدنُ إلى الموضِع الذي منه خُلقَ ، فأحبّ الدّنيا . قلتُ : فإذا فعل هذا يُعجّل له في الدّنيا الثّوابُ ؟ قال : نعم ، نورٌ يوازيه . قال : فحدثتُ بها أبا سُليمانَ الدّارانيَّ فقال : قاتلهُ الله ، إنّهم يَصِفُونَ .
قال الإمامُ الذّهبيُّ ((عليه رحمة الله)) تعليقا على هذه القصّة : الطّريقةُ الْمُثلى هي المحمّديّةُ ، وهو الأخذُ من الطّيباتِ ، وتناولُ الشّهواتِ المباحة من غير إسراف ، كما قال تعالى : " يا أيها الرّسلُ كلوا من الطّيباتِ واعملوا صالحاً " [ المؤمنون : 51 ] ، وقد قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم : " لكنّي أصومُ وأفطِرُ ، وأقومُ وأنامُ ، وآتي النّساءَ ، وآكلُ اللّحم ، فمن رغِب عن سنّتي ، فليس منّي " .[ البخاري ومسلم ] فلم يَشْرَع لنا الرّهبانيةَ ، ولا التّمزّقَ ولا الوِصالَ ، بل ولا صومَ الدّهر ، ودينُ الإسلام يُسْرٌ وحنيفيةٌ سمحةٌ ، فليأكل المسلمُ من الطّيّبِ إذا أمكنه ، كما قال تعالى : " ليُنفِقْ ذو سَعَةٍ من سَعَته " [ الطلاق : 7 ] وقد كان النّساء أحبَّ شيءٍ إلى نبيّنا صلى الله عليه وسلم وكذلك اللّحمُ والحلواءُ والعسلُ والشّرابُ الحلو الباردُ ، وهو أفضلُ الخلقِ وأحبُّهم إلى الله – تعالى – ثمّ العابدُ العَريُّ من العلم ، متى زهد وتبتّل وجاعَ ، وخلا بنفسه وترك اللّحم والثمار ، واقتصر على الدُّقة والكِسرةِ ، صفتْ حواسّهُ ولطُفتْ ، ولازمته خطراتُ النّفسِ ، وسمع خطاباً يتولّدُ من الجوع والسّهر ، لا وجودَ لذلك الخطاب – واللهِ – في الخارج ، وولج الشّيطان في باطنه وخرج ، فيعتقِدُ أنّه قد وصل ، وخوطبَ وارتقى ، فيتمكّنُ منه الشّيطانُ ، ويسوِسُ له ، فينظُرُ إلى المؤمنين بعين الإزدراء ، ويتذكّرُ ذُنوبَه ، وينظرُ إلى نفسِه بعين الكمال ، وربّما آلَ به الأمرُ إلى أن يعتقِدَ أنه وليّ ، صاحبُ كراماتٍ وتمكّنٍ ، وربّما حصل له شكٌّ ، وتزلزلَ إيمانُه . والخلوَةُ والجوعُ أبوجادِ التّرهّبِ ، وليس ذلك من شريعتنا في شيء ٍ . بلى السّلوكُ الكاملُ هو الورعُ في القُوت ، والورعُ في المنطقِ ، وحفظ اللّسان ، وملازمةُ الذّكر ، وتركُ مخالطةِ العامّة ، والبكاءُ على الخطيئةِ ، والتّلاوةُ بالتّرتيل والتّدبّر ، ومقتُ النّفسِ وذمُّها في ذات اللهِ ، والإكثارُ من الصّوم المشروعِ ، ودوامُ التهجّدِ ، والتّواضعُ للمسلِمين ، وصلةُ الرّحم ، والسّماحةُ وكثرةُ البِشْرِ ، والإنفاقُ مع الخصاصةِ ، وقولُ الحقّ الْمُرّ برِفقٍ وتُؤَدَةٍ ، والأمرُ بالعُرف ، والأخذُ بالعفوِ ، والإعراضُ عن الجاهِلينَ ، والرِّباطُ بالثّغْرِ ، وجهادُ العدوّ ، وحجّ البيتِ ، وتناول الطّيبات في الأحايينِ ، وكثرةُ الاستغفارِ في السّحَرِ ، فهذه شمائِلُ الأولياءِ وصفات المحمّديينَ – أماتنا اللهُ على محبّتهم- . انتهى كلامه جزاه الله عنّا وعن الإسلام خيراً .
قلتُ : ورحمَ الله الإمامَ سُفْيانَ بنَ عُيينة حين قال : إنَّ رسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- هوَ المِيزان الأكبرُ وعليه تُعْرَضُ الأشْياءُ على خَلْقِهِ وسِيرَتِهِ وَهَدْيهِ فمَا وافَقَها فهوَ الحقُّ وما خَالفَها فهوَ البَاطلُ .اهـ تذكرةُ السّامع والمُتكلِّم لابن جُماعة ص 13 .
سير أعلام النبلاء ج 7 ص 42 . 43
نقلاً عن كتابي / لطائف الأجوبة ص 74 . 75 يسّر الله طبعه