1. تشويه آليات تشكل النخبة
تنشأ في المجتمع، أي مجتمع، آليات معينة يتمكن المواطنون من خلالها استثمار مواهبهم ومقْدِراتهم الذهنية أو الحِرَفية أو الجسدية، سواء أكانت هذه المقدرات فطرية أو مكتسبة، ليتوصلوا إلى احتلال مواقع رفيعة في المجتمع، تشكل في مجموعها النخبة الاجتماعية. هذا يعني أن المواطنين الذين يشكلون النخبة يتمايزون بفضل قيم يتواضع عليها المجتمع ويقبل بها، وذلك على أساس المساواة التي تفترضها المواطنة والتي تمنح للجميع نفس الدرجة من الحقوق، ومن الحظوظ.
تنتمي هذه الآليات، في قسم منها، إلى المجتمع المدني وتندرج في سياق الحركية الطبيعية للبنى والمؤسسات والمنظمات التي يتشكل منها هذا المجتمع، لكن القسم الأكبر منها يخضع لسلطة الدولة التي يتوجب عليها أن تتحكم فيها وتسيِّرها وفق المصالح العليا للبلد. وفي الحالة الطبيعية يتكامل هذان القسمان بحيث يتكفل كل منهما بفرز النخب الخاصة في مجاله، وفي الكثير من الأوقات تقوم أجهزة الدولة بامتصاص جزء كبير من النخب التي يفرزها المجتمع المدني للاستفادة من مقدراتها، المعترف بها، في عملية تسيير مرافق الدولة.
تؤمِّن المواطنة، في الحالة الطبيعية، الأسس القانونية والعملية لآليات تشكل النخب. إذ تتكافأ فرص المواطنين جميعًا ويتساوون في الحقوق والواجبات فلا تتدخل عوامل تمييز على أساس الانتماء إلى هذا المكوِّن أم ذاك في عملية التشكل تلك. غير أن المتابع لسلوكيات النظام في سورية لا يمكنه إلا أن يلاحظ إلى أي مدى شُوِّهت تلك العملية سواء على صعيد مؤسسات المجتمع المدني (وسائل الإعلام، المنظمات الجماهيرية، الأندية الرياضية...) أم على مستوى أجهزة الدولة، وبشكل خاص المؤسسات صاحبة السلطة الحقيقية في البلد (الجيش والأجهزة الأمنية). وحسبنا هنا التذكير بهذه الأخيرة: الأجهزة الأمنية، التي تُظهر بشكل فاقع كيف أنيطت السلطة الحقيقية في هذه الأجهزة برجال ينتمون (غالبًا) إلى مكوِّن ديني واحد من المكونات الدينية العديدة. ويظهر أيضًا درجة استبعاد أتباع مكوِّنات قومية كاملة عن هذه السلطة.
إن التدخل السلطوي في آليات تشكل النخب شوَّه تلك الآليات وخلق لدى المكونات المستَبعَدة شعورًا عامًا بالتهميش والإقصاء، مما أعطى للتصدعات المجتمعية الخامدة فرصة لتستفيق ولتحيا من جديد.