القرآنُ الكريم ,,,,
طالما ارتبطَ صوتُه بصوتِ الموتِ في أذهانِنا ,
وطالما ارتبطت كلماتُه التي تنطلقُ مجلجلةً عبرَ مكبِّر الصَّوت ,
ثمَّ تتكسَّرُ على الجدران ,
وتذوبُ في المساحات ,
فلا نسمعُ منها إلا نبرات لا تحملُ سوى زفراتِ أشباحِ الموت ,
وطالما تناهت لأسماعِنا وأحاسيسِنا,, خاليةً من أي شيءٍ سوى رائحةِ الموتِ ,وطعمِه,
فكلَّما كنَّا نسمعُ صوتَ القرآن يندفعُ من أي مكبرٍ للصوت نتوجَّس ,,وتنتفضُ حواسُّنا ,,وتتقلّصُ أوتارُ قلوبِنا متسائلين
مَن مات ؟؟؟
مَن هو,, أو هي, التي فارقت الحياةَ الآن, أو فارقنا؟؟
لا أدري,, لمَ الطفولة تخزِّنُ نكهةَ المشاعرِ مدى الحياة ,الجميلة منها ,والحزينة أو المخيفة ؟؟
من يجرؤ أن يقول أن الموتَ أمرٌ سهلٌ على النفسِ البشريَّة ,خاصةً النفوس الغضَّة الحسَّاسة الوليدة ؟؟
إذا كانت الأفيالُ الضخمة ثخينة الجلد تحزنُ وتدمعُ كلَّما صادفتها رفاتُ معارفِها على طرقاتِها ؟؟
فكيف الإنسان ؟؟كيف الأطفال ؟؟
أتذكَّرُ طفولتي جيداً ,وأتذكَّرُ كيفَ كنتُ عندما أسمعُ صوتَ أحدِ قرَّاء القرآن من شريط مسجَّل,
والذي يتركونَه يجلجلُ من الفجرَ إلى العشاء ,وعلى مدى ثلاثةِ أيامٍ متواصلة , بعد كلِّ حالةِ وفاةٍ في الحي,
وأتذكرُ,, كيفَ كنتُ أحسُّ صوتَ الموتِ جافاً ,مجوَّفاً ,راعباً يزعقُ في مسامعي ,,,
فتتجمَّد الطفولةُ في قلبي ,وتتيبَّسُ الحياةُ في نبضي ,فأحسُّ فراغاً هائلاً ,ناشفاً يعصفُ بمشاعري كزوبعةِ رملٍ خانقةٍ في صحراء,, تمتدُّ في المدى ,,,ليس لبدايتِها ملامح ,وليس لنهايتِها نهاية !!
وأحسُّ العالمَ حولي جبالاً من ظلامٍ مخيفٍ زاحف , فأفقدُ الرَّغبة في الدَّرسِ والأكلِ واللعبِ وبعض أعمالِ البيت التي كانت واجبي,
إذْ كنتُ أعتقدُ أنَّ هذا الصوت ,هو صوتُ الموت .
وعندما كبرتُ قليلاً ,وأدركتُ ما معنى( وإذا قُرىء القرآن فاستمعوا له)
صرتُ أسألُ الكبار إذا ما كانوا يفهمونَ أيةِ كلمة؟ فيكونُ الجواب ,,,لا !!!
لا ؟؟
إذن لماذا ؟؟
يسكتُني الكبارُ, وكأنَّني أكفر!
واليوم,,,
ومنذُ زمنٍ طويل,
وبعدَ أن قرأتُ القرآن الكريم وفهمتُ ما يعنيه ,
وبعد أن تتبَّعتُ كلّ كلمةٍ منه في المعاجمِ والمراجع,
عرفتُ وتيقنتُ أنّ القرآنَ أُنزلَ من أجلِ الحياة ,
إنَّه دستورُ الحياة ,
إنَّه دستورُ فرحِ الحياةِ وسعادتِها ,هناءِ الحياةِ وراحتِها ورِضاها ,
وكانَ يجبُ أن تسمعهُ طفولتُنا في ليالي العيد ,وفي الأفراحِ وقدومِ الربيع, وهطولِ المطر, ومواسمِ القطاف والحصاد ,
ليرتبطَ صوتُه بأذهانِنا بالحياةِ والفرح, وليس بالموت والحزن .
فهل صوتُ القرآن المجلجل عبرَ مكبراتِ الصوت,, ومن الصباحِ للمساء,, ولثلاثة أيامٍ متواصلة ,وقت وفاة أحدهم ؟
والذي ستتكسَّرُ كلماتُه ومعانيه الجميلة العظيمة على الجدران ؟
أو تذوبُ في المساحات ؟
والذي لن تصلُ للمسامع منه سوى نبراتٍ تحملُ شهقاتِ أشباح الموت ,,ستفيد المتوفى بشيء ؟؟
إذن لماذا؟؟؟
****
الجوعُ كافر !
والعطشُ كافر !
هذة حقيقة ,,,
ولكن ,,هل يجبرُ الجوعُ الجائعَ على أكلِ اللحوم الميِّتةِ الفاسدة ؟؟
هل يجبرُ العطشُ العطشانَ على شربِ المياهِ الملوَّثةِ القذرة ؟؟
أليست نفسُ الإنسان أرفعُ وأسمى من نفوسِ الضِّباع؟؟
ألا تحميه عفتُه وأنفتُه من ملىءِ بطنِه من المأكولات المقزِّزة ؟؟
أليس الإنسانُ مخلوقاً أعظم وأرفع من الذباب مثلاً ؟
ألا تحميه عزَّةُ نفسه من اقترابِ المياه الآسنة ؟
كيف يسمحُ لنفسه بحجةِ الفقر أن يقومَ بأعمالٍ خارجةٍ عن الأخلاقِِ والدِّين والضَّمير والإنسانيَّة ؟
*
ليلبسِنا الفقرُ من الرَّأسِ إلى القدم ,فنحن أغنياء بأرواحنا الطَّاهرة ,وبنفوسٍنا العزيزة ,لأنَّنا بشر.
ولو افتقرنا يوماً للضَّميرِ والأخلاقِ والدِّين والكبرياء ,,
سنقول ساعتها نحن فقراء .
ماسة
أشكر الأخ العزيز عبد الرحيم صادقي