المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نادية محمد الجابى
ليلة ( رابحة )
تكاثفت سحب سوداء ثقيلة , فاغتمت السماء وأظلمت ـ برقت وأرعدت , ثم تساقط المطر غزيرا .. غزيرا ..
تحت تلك السيول من الأمطار المنهمرة , وبعد منتصف الليل بدأت سيارة أجرة رحلتها متخذة طريقها
من أمام مستشفى كبير ببنغازي , وفى طريقها إلى المرج حيث يقطن مستأجروها , وقد أخذت تسير في بطء.
تساقطت حبات المطر على سقف السيارة , فتناغمت دقاتها مع الحزن الرابض بقلوب راكبيها .
كانت تحمل فى مقعدها الثالث والأخير جسدا رقد ساكنا سكونه الأبدي , توقف قلبه عن
النبض , وأسلمت الروح نفسها إلى بارئها .
ألتفت السائق التفاتة غير إرادية إلى حيث يرقد ذلك الجسد الجميل المتناسق , تذكر ملامح
الوجه حين انحسرت الملاءة عنه وهو يرفعه داخل السيارة .. بهره شعر مسترسل , يحيط
بوجه وديع , رقيق الملامح .. بدت له بوجهها الملائكي وجفونها المسدلة كتلك الأميرة
النائمة التى سمع قصتها يوما ما , فى انتظار قبلة من فارسها لتنفض عنها نومها الثقيل
وتنهض لتملأ الدنيا ضحكا وسعادة .
نظر نظرة جانبية , فتلاقت عيناه مع عينى زوجها الجالس إلى جواره, فقرأ فيهما آيات
الحزن والضياع والألم .
سمع السائق صوت نشيج مكتوم قد أخذ يرتفع فجأة ـ أدرك أن مصدره هو العجوز الجالسة
خلفه .. أم الزوجة المتوفاة .. استراح لبكائها , فقد بدت له فى اللحظات الأولى فى حالة من
الذهول , وكأنها على حافة الجنون .
اشتد نحيب الأم , فقد بدأت تعى ما يحدث , كان الأمر كله يبدو لها كا الكابوس ثقيل وغريب
منذ خمسة أيام فقط كانت ( رابحة ) ابنتها زهرة يانعة , تملأ الدنيا بعبير شبابها الفتى الغض
أصيبت فجأة بارتفاع شديد فى درجة الحرارة , ثم راحت فى غيبوبة ثقيلة استمرت أربعة
أيام ـ ألتاع قلبها فيها على فلذة كبدها , أما اليوم فقد كانت فرحتها كبيرة , أفاقت ابنتها ,
نظرت إليها وابتسمت , أخذت تجرى مهرولة تبحث عن صالح زوج ابنتها لتبشره , ولكن
عند عودتها أدركت إنها لم تكن إلا صحوة الموت .
أنتفض قلبها انتفاضة موجعة , واندلعت فى أعماقها فاجعة , وسالت نفسها حزنا , إلتفتت
إلى حفيدتيها الصغيرتين النائمتين وقد ضمتهما عائشة أخت الزوج إليها فى حنان , فراحت
تنشج : آه .. رابحة يازهرتى , لما رحلتي سريعا , ستبقى النار أبد الدهر مشتعلة فى قلب
أمك الملتاع . طفرت الدموع من عيون عائشة , رحل عقلها لأولادها الثلاثة التى اضطرت
لتركهم فى بيتها فى المرج , حتى تتفرغ لرعاية ابنتي أخيها , تخيلت نفسها كما لو كانت هى
المتوفاة ,مالذى يمكن أن يحدث لأطفالها من بعدها , فضمت الصغيرتين بكل ما أوتيت فى
قلبها من حنان الأمومة , وانهمرت دموعها غزيرة مدرارا
أنتفض صالح فى قفزة مباغتة , وقد لسعته لفافته التى نسيها بين أصابعه ـ فأطفأها ليشعل
أخرى , سحب منها نفسا عميقا , وبعصبية مفرطة نفس دخانها , حانت منه إلتفاتة إلى
المرآة الأمامية للسيارة فأنكر شكله فيها , لشد ما بدلته تلك الأيام الخمسة الأخيرة ـ مرت
وكأنها خمس سنوات طوال .. لم يذق فيها طعما لطعام أو نوم إلا خطفات سريعة .
شعر باليتم يغمره وفى قلبه بحرقة , كأنه طفل ينزع من بين ذراعى أمه , أو كأنه سفينة
فقدت ربانها , فوقفت حائرة فى بحر مترامى بلا شطآن . هل حقا رحلت رابحة ؟؟
هل ماتت رفيقة الدرب ؟؟ لن يعد يسمع صوتها الحنون يناديه ويناجيه ؟؟
امتلأ القلب حسرة , وتدفق الينبوع دموعا بين أصابعه المرتعشة .
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــ
تكالبت الريح المحملة بالمطر , وكأنها تخوض معركة ميدانها الفضاء الوسيع .. صفرت
وزأرت ـ عربدت وعوت .. اهزت السيارة هزة مفاجئة ثم توقفت تماما .
سأل صالح السائق : ما الخبر ؟
قال السائق : لم أعد أستطيع التحكم فى السيارة من شدة العاصفة , لا بد أن نتوقف قليلا .
صالح : كيف نتوقف ؟ .. سنتأخر .. إنهم فى انتظارنا منذ ساعات .
السائق : ألا ترى إنى أيضا لم أعد أستطيع الرؤية من غزارة الأمطار ؟
إذا كنت تستطيع أنت فتفضل مفتاح القيادة .
صالح : وهل تراني ياأخى فى حالة تسمح بذلك ؟!!
السائق : إذا فلنتوقف قليلا حتى تهدأ العاصفة, والأمطار .
طرحت عائشة الطفلتين النائمتين على أرض المقعد وهمست بصوت مرتعد فى أذن أخيها :
هل سنتوقف هنا فى الظلام مع جثة ؟؟
نهرها أخاها هامسا بصوت غاضب : صه .. كفى عن هذا الهراء . ولكنه مع ذلك لم يستطع
أن يمنع رعدة قشعريرة سرت فى جسده كله من رأسه حتى أخمص قدميه .
ساد فى الظلام صمت ثقيل كأنه النوم أو الموت ـ وإن كان الجو قد شحن بكهرباء خفية , وقد
طرح جميع الركاب خواطرهم , وانتبهوا لخطورة الموقف , فاشرأبت أعناقهم , وتصلبت
عروقهم فى اتجاه الزجاج الأمامي للسيارة فى مراقبة لغزارة الأمطار والرياح .
بعد برهة مرت ثقيلة , كئيبة , بطيئة .. أخذت الرياح تهدأ شيئا ما , ويتحول المطر الثقيل
إلى رذاذ خفيف .. أدار السائق مفتاح القيادة , وتنفس الراكبون الصعداء .. وإن ظلوا
مشدودين بكل حواسهم إلى الطريق . أشارت عائشة إلى جدار غليظ من الظلمة الكثيفة قد
بدأ يبدو أمامهم سائلة : هل أصبحنا فى الباكور ؟
أجاب السائق : نعم .. هذا هو الجبل الأخضر .. سنبدأ فى الصعود .
همست الأم التى صمتت طوال الوقت : توكلنا على الله ـ فلنقرأ شيئا من القرآن .
أخذت الأفواه تتمتم فى حركة آلية تمتمات سريعة غير مسموعة ـ قال صالح فى محاولة
لطمأنة نفسه : نحمد الله أن الأمطار الآن أهدأ من قبل أليس كذلك ؟؟
السائق : نعم .. ولكن ألا ترى هذا السحاب الزاحف نحونا ؟
عائشة بخوف : حقا .. ماهذا الضباب الكثيف الذي يتصاعد حولنا كالأبخرة ؟!!
عندما أصبحت السيارة فى قمة الجبل كانت تسبح فى ضباب كثيف , حتى صعب تبين
الخطى أو اكتشاف الطريق .
أنتاب الجميع الذعر والذهول ـ لقد أصبحوا وكأنهم من أهل السماء , معلقون فى السماء ,
غائصون فى الضباب , تتكاثف حولهم الظلمات وكأنها الأمواج العظام .
قال صالح هامسا مبحلق : أترى شيئا ؟ إنى لم أعد أرى الطريق على الإطلاق .
قالت الأم فى خوف : أرجوكم أن تتوقفوا ـ إن أى خطوة خاطئة ستهوى بنا من أعلى الجبل
إلى قاع الوادي
قال السائق : لا أستطيع التوقف ـ فالطريق منحدر وضيق , سنكون معرضين للإستصطدام
بأي سيارة تعترضنا , ولا تتمكن من رؤيتنا . .
يفتح صالح النافذة ويحاول أن يطل منها إلى منتصفه ويقول : تعال إلى هذا الجانب ..
سنقف ملتصقين بجوار الجبل حتى تتضح الرؤية قليلا . انحرف السائق بالسيارة إلى الجدار
الجبلي للطريق والتصق به وتوقف .
مضت برهة لم يعد يسمع فيها أى صوت , سوى أصوات الأنفاس اللاهثة الواجفة , ولكن
حدث ما لم يكن فى الحسبان .. فقد سمعوا صوت ارتطام شيئا ما على سقف السيارة ..
صرخت المرأتان من ا لرعب , فاستيقظت الطفلتان مذعورتان , وقد انخرطتا فى بكاء
طفولى غزير طويل الشهقات . لم يفطن لبكائهم أحد , أو يحاول إسكاتهم , لأن أحجارا
أخرى صغيرة كانت قد بدأت تتساقط متتابعة على ظهر السيارة بفعل من الأمطار ..
استولى الرعب على الراكبين ــ صرخت عائشة : كيف سنخرج من هذا المأزق ؟؟
إذا تحركنا تعرضنا للسقوط فى الهاوية ـ وإذا وقفنا انهارت علينا أحجار الجبل !!!!
صاح السائق : لا مفر من محاولة النزول .. ساعدونى .. حاولوا أن تتبينوا الطريق .
فتح الجميع النوافذ وقد أخذ ينظر كل منهم مبحلقا فى الظلام والضباب فى محاولة لتبين
معالم الطريق . بدأ الجميع يصيح فى نفس واحد وبأصوات مختلفة مرتعشة : من هنا .. لا
.. لا .. يمين لآ .. يسار قليلا .. لا .. لا .. حاذر.
لحظات رهيبة ممزقة بالخوف , مرت وكأنها دهرا من الزمان , ولكن الظلام بدأ ينحسر
ويبهت رويدا .. رويدا .. كان الفجر قد بدأ يمعن فى تشقيق ثوب الليل , فوهب النفوس
الواجفة شعورا بالأمن والنجاة .
هدأت النفوس وقد أخذت تتأمل الحقول الخضراء , والطرقات المجللة بالأشجار المغسولة
بالمياه السماوية .. وعبق الجو بشذا الورود والثمار , وتهادت السيارة بعد قليل فى ظل
صف رشيق من الأشجار .. هاهم قد وصلوا أخيرا إلى مزرعتهم المنشودة ..
أنزل الرجال الجثمان فى سرعة , فبدأت تتعالى أصوات النساء الباكيات , فأخذ السائق
سيارته مسرعا فى طريق العودة قائلا : نحمد الله أنى نجوت من رحلتكم الشؤم هذه .
أما عائشة فقد أخذت تجرى باحثة عن أطفالها التى افتقدتهم كثيرا .. وألقى صالح نفسه
بين أحضان أمه وهو يقول : آه ياأمى ـ نجونا بأعجوبة من موت محقق . بينما تعالى بين
أصوات النساء الباكيات صوتا مشحونا بالعاطفة , مبحوحا من البكاء يقول : رابحة ابنتى
ستبقى النار أبد الدهر مشتعلة فى قلب أمك الملتاع .. ولكن أحد لم يفطن إلى طفلتين قد
شرقتا فى دموعهما ـ تبحثان بين النساء وتقولان : أمي .. أين أنت ياأمى ؟؟!!!
.