( ننصح القارئ الكريم بمطالعة النص القصصي عاجل 1..)
لم يكنْ وقعُ ما حلّ بصاحِبنا على يد تلك العجوزِ الخرفة في المصعد الكهربائيّ يسيراً عليه ..فقد كشفت له تلك الحادثةُ غفلَتهُ عن ما يستجدّ من حوله من شُؤونِ الدنيا ...وربما غّرَر به جهلُه أن يصدق أي شيءٍ تتلقّفُه أذناه بينما لا يقبلهُ عقل ..
فكر و قدّر ..ثم نظرْ.. فرأى أن لا بدّ له من متابعة الأخبارأولاً بأوّل من الفضائيات و الصحف اليومية ..وعندها يمكن له أن يشارك الآخرين برأيه ..ولم لا ؟ و هل جارُه ” مرتضى” أرجحُ منه عقلاً و أفصح لسانا ً؟ فكلاهما خرّيج الإعدادية قبل ثلاثين سنةٍ و نيّف ،.. صحيحٌ أن مرتضى كان متقدماً عليه بموادّ العلوم و الجبر و اللغة العربية و الانجليزية و التاريخ و الجغرافيا و التربية الدينية ( فقط ..!) أما هو فقد تقدم عليه بدرجاتٍ في الرياضة و التربية الفنية .. فلماذا يتصدّرُ مرتضى المجالسَ و يتكلّم في الشأن العامِّ ..بينما يلوذ هو بالصمت .. ومن أجلِ ذلكَ كان لا بدّ من إعادة توليف الطبق اللاقط ليتمكّن من متابعة الفضائيات الاخبارية ..أما الصحيفة اليومية فقد أوصى بها صاحب البقالة بان يحضرها كل صباحٍ مع عُبوة الحليب و اللبن اللتين اعتاد أنْ يوصِلهما لبيته.. و عندما ذكّره البقّال بالمبلغ الشهريِّ الذي صار َ لزاماً عليه أن يسدّده مقابل تلك الصحف، ثقُلَ ذلك عليه، فارتَضيا حلاّ و سطا وهو أن يحضر له كلّ يومٍ صحيفةَ اليومِ الذي يَسبقُهُ فأخباُر اليوم هِي ذاتُها أخبارُ الأمس -كما أقنعه البقّال- وكان الإتفاق على ربع الثمن فحسب ..فكان على الصحيفةِ أن تقضي ليلتها بين جُدران البقالة - تتخمّر – تماماً كما تتخمّرُ عجينةُ الكعك..
أمّا زوجته فلم تُطقْ ما رَأتهُ عليهِ من تغيير ..وحذّرتهُ بأّنه يكفيه همُّ قوتِ عيالهِ فحسب..وحقّا لم يكنْ لصاحبِنا أن يحملَ همّا قطّ..وإنْ كان فهو كيسُ الخبزِ وكيسُ الخضرواتِ يحملهُما في يديه لا في رأسهِ ..فكيف له الآن بأوزارٍ ينوءُ بها رأسُه قبلَ يديه؟!
و لم يكن يعي قبل ذلك مصطلحاتٍ كثيرةٍ أَثقلت أُذنيه ..فالتحليل كان بالنسبة اليه إمّا تحليلُ دمٍ أو تحليل( ...)أما التحليل السياسيّ فبدعة ؟؟ و الديمقراطية و(ضرّتها ) الديكتاتورية و جارتهما في ذاتِ الحيّ الايديولوجية ..مصطلحات مرّن لسانَهُ على نطقها ..ولا تسلْ عن مغزاها ؟!
أمضى اسبوعين يقضي الساعات الاربعِ الفاصلةِ ما بينَ عودتهِ من عملهِ و ساعةِ نومه مقلّباً أصابعه بين صفحات الجرائدِ و عينيهِ بين الفضائيات ..خبٌرعاجلٌ هنا وتحليلٌ هناك ..أما الزوجة المسكينةُ فقد ثقلُ عليها ثلاثَ أكوابٍ من الشاي صارت تقّدمها له بدلٍَ كوب واحد كان يكفيه .. وكانت أخبار مصر المحروسة تشدّه وقد ثارتْ أزمة الدستورما بين مؤيِّد و معارض ..
لم يعتدْ أن يتغيب عن جيرانه الذين يجتمعون أسبوعيا كل خميسٍ في المقهى عند آخر الحيّ..فتوجَّه إليهم لكنْ بروحٍ جديدة..كانت أجواءُ المقهى عَبقةً بالّدخان المتطايرمن السجائر و الأراجيل كأنه سحابٌ مركوم..يعلو فوق أصوات مختلطةٍ من السعالِ و قهقهات الرواد ..وطرقاتِ أوراق الكوتشينة على المناضد الخشبية..كان في الطاولة من خلفه" مرتضى" ومن معهُ أمّا هو فقد اختارَ مكاناً آخرَ إلى جانبهم..جلس الى صحْبهِ بعدَ أن ضمّ معطَفه بيديهِ و رفع رأسه مزهوّاً ..حدّث أصدقاءه معتذرا لغيابه عنهم الأسبوعَ المنصرم ، متعللا بمتابعته للأحداث و التحليلات ..شرع يحدّثهم عن ما قرأهُ أو شاهدهُ من أحداثٍ..
..و كانوا يهّزون رؤوسهم باهتمام ..فلم يعهدوا على صاحِبهم حديثاً من قبل سِوى أَسعار الفاكهة و اللحوم و غلاء المعيشة ..حدثهم عن ازمة الدستور في مصر :
"هناك دستوران في مصر أحدهما أعدّه الدكتور الغرياني والآخر أعدّه الدكتور البرادعي و الدستوران يتنافسان لنيلِ رِضى المصريين ..!" ..إستوقفه أحدُهم وقد جعلَ سيجارته بين أصابعهِ بعد أنْ ملأَ فمه دخاناً ثمّ أطلقهُ سحابة ظللتهم :ما شاء الله كلهم دكاترة..فما تخصّصهم ؟! إرتبك صاحبنا ثمّ استدرك :أما أحدُهما.. فدكتور جّراح ..والاخر.. طبيب عيون .!.قلّبَ عينيه فيمن حوله متفحّصاً ..ساد المشهد صمتٌ لبرهةٍ داخلته همهماتٌ من الطاولة المجاورة حيث مرتضى ومن معه .. ثمّ تلاشى الصمت بقهقهاتٍ ضجّت بها جنباتُ المقهى ..
في البيت عندَ المساء ..صحفٌ ممزّقة ..و تلفاٌز معطّلٌ و صاحبُنا ملقىً على سريره..و زَوجتُه تضع كفّها على فمها لتحبس ابتسامةً أفلت نصفها ..!