كُنْتُ أَجْلِسُ فِي شرفَةِ المَنْزِلِ، فِي ذَاكَ المَسَاءِ الكَئِيبِ، حَيْثُ التَهَمَتْ عُتمَةُ اللّيلِ ونَسَمَاتُهُ البَارِدَهُ جَسَدِي، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ غيرَ الْتِمَاعِ مَرَايَا الدُّمُوعِ المُتَأَرْجِحِ فِي مُغُرِ عَيْنَيَّ.فَايِقْ يَا هَوَا
كَانَتِ البُيُوتُ تَتَزَاحَمُ مِنْ حَوْلِي كَعِيدَانِ الثَّقَابِ فِي العُلْبَةِ، وَكَانَتِ الوُجُوهُ الغَرِيبَةُ المُبْهَمَةُ تُطَالِعُنِي مِنَ الشُّرُفَاتِ القَرِيبَةِ، بِعُيُونِهَا الحَائِرَةِ.
وَكُنْتُ أُحَاوِلُ أَنْ أَقْرَأَ نَفْسِي فِي تِلْكَ العُيُونِ، عَلَّنِي أُفْلِحُ فِي العُثُورِعَلَى ذَاتِي الهَارِبَةِ، بَعْدَ رِحْلَةِ تَشَتُّتٍ مُرْهِقَةٍ، أَدْمَتْ كَاهِلِي.
أَسْنَدْتُ قَدَمَيَّ عَلَى حَافَّةِ الشُّرْفَةِ، وَاسْتَرْخَيْتُ، فِي ذَلِكَ الكُرْسِيِّ الأَبْيَضِ، الَّذِي نَسِيَ لَوْنَهُ جَرَّاءَ لَثْمِ الشَّمْسِ لَهُ عِنْدَ شُرُوقِهَا وَغُرُوبِهَا .
أَغْمَضْتُ جَفْنَيَّ، وَحَاوَلْتُ أَنْ أَنْتَزِعَ نَفْسِي مِنْ دَوَّامَةِ التَخَبُّطِ، الَّتِي كُنْتُ أَغْرَقُ بِهَا، انْتَشَلْتُ بَقَايَايَ، وَحَاوَلْتُ تَنْقَيَةَ ذِهْنِي، لَكِنْ سَرْعَانَ مَا وَجَدْتُنِي أُجَرُّ بِحَبْلِ الذِّكْرِيَاتِ قَسْرًا، لِأَرْتَمِيَ فِي حِضْنِها الحَالِمِ، حَيْثُ شُغِلْتُ عَنِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا .
اسْتَعَدْتُ تَفَاصِيلَ ذَلِكَ اليَوْمِ الَّذِي التَقَيْتُهُ بِهِ، فِي تِلْكَ الحَدِيقَةِ، حَيْثُ كُنْتُ أَجْلِسُ وَحِيدَةً هُنَاكَ، أُلَمْلِمُ أَطْيَافَ النَّهَارِ الهَارِبِ ،وَأَتَأَمَّلُ الأَشْجَارَ مِنْ حَوْلِي، وَهْيَ تُلَوِّحُ بِذِرَاعَيْهَا، مُوَدِّعَةً لِقُرْصِ الشَّمْسِ الدَّامِي، والعَصَافِيرِ الَّتِي كَانَتْ تُحَلِّقُ مُسْرِعَةً لِتُعَانِقَ جَسَدَ الشَّفَقِ الذَّاوِي، وَلِتُغْرِقَ جَنَاحَيْهَا فِي شَلَّالِ حُمْرَتِهِ وَلِتَغْتَسِلَ بِبَقَايَا دِفْئِهِ.
كُنْتُ أَسْتَلْقِي عَلَى العُشْبِ، وَأُطَالِعُ رِوَايَةً لِشِكْسْبِيرَ، وَلَمْ يَكُنْ يُرَافِقُنِي عِنْدَهَا سِوَى عُشْبُ الحَدِيقَةِ، وَظِلَالُ الأَشْجَارِ المُتَرَاقِصَةِ فَوْقَ تِلْكَ الأَعْشَابِ.
وَهَامَسَنِي صَوْتُهُ مِنْ خَلْفِي كَعَزْفٍ مَلَائِكِيٍّ عَلَى أَوْتَارِ قِيثَارَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، هَادِئًا، حَزِينًا، عَذْبًا.
فَلَمْ أَفْزَعْ، وَلَمْ أُسَارِعْ لِلَمْلَمَةِ جَسَدِي مِنْ عَلَى العُشْبِ، لَمْ تَكُنْ مِنِّي غَيْرَالتِفَاتَةٍ لِلْخَلْفِ، حَيْثُ كَانَ يَتَكَلَّمُ، لِأَتَأَكَّدَ مِنْ أَنَّنِي أَسْمَعُ صَوْتًا بَشَرِيًّا، فَقَدْ شَكَكْتُ لِوَهْلَةٍ أَنَّ طَيْفًا خَرَجَ مِنْ رِوَايَةِ شِكْسْبيِرَ الَّتِي كُنْتُ أَقْرَأُهَا.
-عَفْوًا آنِسَتِي، هَلْ يُمْكِنُنِي الجُلُوسَ بِرِفْقَتِكِ؟ أَعِدُكِ أَلَّا أُزْعِجَكِ.
-أَجَلْ سَيِّدِي.
قُلْتُهَا وَنَهَضْتُ هَذِهِ المَرَّةَ بِسُرْعَةٍ تَنَاثَرَتْ مِنْهَا الحَيرَةُ وَالارْتِبَاكُ كَمَا لَوْ كُنْتُ اسْتَيْقَظْتُ مِنْ حُلُمِ يَقَظَةٍ طَوِيلٍ جِدًا. وَلَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أُخْفِيَ ارْتِبَاكِي عَنْهُ فَرَفْرَفَتْ عَلَى ثَغْرِهِ أَطْيَافُ ابْتِسَامَةٍ مَاكِرَةٍ بِالْكَادِ ارْتَسَمَتْ عَلَى شَفَتَيْهِ، لَكِنَّنِي شَعَرْتُ بِهَا تَخْتَرِقُ أَضْلُعِي.
-إِذَا كَانَتْ رِفْقَتِي تُزْعِجُكِ فَأَنَا سَأُغَادِرُ آنِسَتِي، لَا أُحِبُّ أَنْ أَتَسَبَّبَ لَكِ بِالإِحْرَاجِ.
-أَبَدًا سَيِّدِي لَكِنِّي كُنْتُ شَارِدَةً بَعْضَ الشَّيْءِ، لَا عَلَيْكَ سَأَكُونُ عَلَى مَا يُرَامُ.
وَجَلَسْتُ قُرْبَهُ عَلَى العُشْبِ الأَخْضَرِ. لَا أَعِي لِمَ وَافَقْتُ أَنْ يَنْضَمَّ إِلَيَّ، وَلَا لِمَ طَلَبَ هُوَ ذَلِكَ، لَكِنْ مَا كُنْت مُتَيَقِّنَةً مِنْهُ هُوَ أَنَّنِي كُنْتُ بِحَاجَةٍ إِلَى إِنْسَانٍ يَحْتَوِي قَلَقِي فِي تِلْكَ اللَّحَظَاتِ، وَبِأَنَّي وَجَدْتُهُ.
كَانَ يَجْلِسُ بِقُرْبِي، مَاضِغًا تَفَاصِيلَ وَجْهِي بِعَيْنَيْهِ، وَكُنْتُ أخْتَلِسُ النَّظَرَ إِلَيْهِ كُلَّمَا اسْتَشْعَرْتُ غِيَابَ نَاظِرَيْهِ عَنِّي.
-هَلْ تُمَانِعِينَ لَوْ تَجَاذَبْنَا أَطْرَافَ الحَدِيثِ آنِسَتِي؟
وَلَمْ أَتَرَدَّدْ بِالْرَدِّ وَكَأَنِّي كُنْتُ أَطْهُو إِجَابَتِي عَلَى نَارٍ هَادِئَةٍ مُنْذُ سَنَوَاتٍ مَضَتْ.
-بِالْطَّبْعِ لَا سَيِّدِي، بَلْ يُسْعِدُنِي ذَلِكَ، أَشْعُرُ بِأَنِّي أَعْرِفُكَ مُنْذُ زَمَنٍ طَوِيلٍ.
وَتَوَقَّعْتُ أَنْ تُحَرِّكَ إِجَابَتِي بِهِ سَاكِنًا، لَكِنَّ الهُدُوءَ كَانَ يُغْرِقُ نَظَرَاتِهِ وَتَفَاصِيلَ وَجْهِهِ اللَّطِيفِ، فَلَمْ تَنْطِقْ خُطُوطَ بَشَرَتِهِ بِشَيْءٍ .
-حَدِّثِينِي عَنْ نَفْسِكِ آنِسَتِي، وَاعْذُرِينِي إِنْ كُنْتُ قَدْ أَخْطَأْتُ اللَّقَبَ فَهَذَا مَا أَشْعُرُ بِهِ، لَا أَعْتَقِدُكِ سَيِّدَةً، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟
وَأَرْفَقَ سُؤَالَهُ ذَاكَ بِنَظْرَةٍ مُتَفَحِّصَةٍ كَادَتْ تَثْقُبُ تَفَاصِيلَ وَجْهِي، لِدَرَجَةِ أَنِّي تَمَنَّيْتُ وَقْتَهَا لَوْ تَلَاشَيْتُ، لِأَلَّا تَحْرِقَنِي تِلْكَ النَّظْرَةُ.
-لَا لَمْ تُخْطِئْ سَيِّدِي فَأَنَا لَا زِلْتُ آنِسَةً. مَا الّذي تُحِبُّ أَنْ تَعْرِفَهُ عَنِّي؟ أَمْ أُحَدِّثُكَ بِمَا يَرُوقُ لِي؟
وَلَمْ يُجِبْ، تَرَكَ بَرِيقَ عَيْنَيْهِ المُتَّشِحِ بِاللَّهْفَةِ يُخْبِرُنِي الرَدَّ. فَلَمْ أَجِدْ نَفْسِي إِلَّا وَأَنَا أَغْرَقُ فِي بَحْرِ التَّفَاصِيلِ، اسْمِي، سِنِّي، أُسْرَتِي، أَصْدِقَائِي، جِيرَانِي، مَدْرَسَتِي، زُمَلَائِي، دَفَاتِرِي، أَقْلَامِي، أَحْلَامِي...
لَا أدْرِي مَا الَّذِي سَاقَنِي لِصَبِّ ذَاتِي فِي كَأْسِ إِصْغَائِهِ، لَكِنَّنِي كُنْتُ أَشْعُرُ بِرَاحَةٍ عَارِمَةٍ وَأَنَا أَتَحَدَّثُ. وَهُوَ كَانَ يَجْلِسُ وَيُعَانِقُ كَلِمَاتِي كَمَا لَوْ أَنَّهَا بلسَمٌ شَافٍ يُدَاوِي رُوحَهُ المُتْعَبَةَ.
تَوَقَّفْتُ عَنِ الكَلَامِ، وَتَمَعَّنْتُ تَفَاصِيلَ وَجْهِهِ، كَأَنَّنِي أَقُولُ لَهُ: "جَاءَ دَوْرُكَ". فَشَرَعَ يَتَكَلَّمُ.
-هَلْ تَوَدُّ آنِسَتِي أَنْ تَسْمَعَنِي؟
وَأَجَبْتُهُ بِلَهْجَةٍ حَالِمَةٍ، تَتَرَاقَصُ عَلَى أَهْدَابِهَا خَوَاصِرُ الفَرْحَةِ.
-بِالطَّبْعِ سَيِّدِي.
-هَلْ يُمْكِنُكِ مُنَادَاتِي بِاسْمِي الشَخْصِيِّ، أَحْمَد ؟
- أَ .......حْ.........مَ.....دْدْدْدْدْ
شَعَرْتُ بِالاسْمِ يَحْتَلُّ حُنْجَرَتِي، وَتَشَبَّعَتْ أَنْفَاسِي بِهِ فَخَرَجَ كَلَحْنٍ مُوسِيقِيٍّ رَائِعٍ.
-نَعَمْ آنِسَتِي، وَأُحِبُّ أَنْ أُنَادِيكِ أَمِيرَتِي، فَهَلْ تُعْجِبُكِ التَّسْمِيَةَ؟
وَلَمْ أَجِدْ نَفْسِي إِلَّا وَأَنَا أَتُوهُ فِي الأَحْلَامِ وَأَزْرَعُهُ فِي حُلُمِي أَمِيرًا.
-لَنْ أُمَانِعَ، حَدِّثْنِي عَنْكَ!.
- أَنَا يَا أَمِيرَتِي شَخْصٌ بِلَا مَاضٍ، وَحَاضِرِي هُوَ أَنْتِ، فَهَلْ تَقْبَلِينَنِي حَاضِرًا؟.
كَانَت إِجَابَتُهُ غَرِيبَةً، وَسُؤَالُهُ كَانَ أعْجَبَ. وَالأَعْجَبُ مِنْ كِلَيْهِمَا رَدَّةُ فِعْلِي المُكَبَّلَةُ بِانْجِذَابِي إلَيْهِ وَانْبِهَارِي بِسِحْرِ شَخْصِيَّتِهِ وَأُسْلُوبِهِ الوَاثِقِ بالْحَدِيثِ.
لَمْ أنْطِقْ حَرْفًا، وَتَرَكْتُ نَظَرَاتِي المُنْبَهِرَةَ تَدْرُسُ تَضَارِيسَ وَجْهِهِ.
-هَلْ تَسْمَحُ أَمِيرَتِي أَنْ أُمْسِكَ يَدَهَا؟
وَسَارَعْتُ لِأَضَعَ يَدِي فِي يَدِهِ، دُونَمَا وَجَلٍ أَوْ تَرَدُّدٍ، كَأَنِّي كُنْتُ أَخْشَى أَنْ يَعْدِلَ عَنْ طَلَبِهِ لَوْ تَرَدَّدْتُ قَلِيلًا.
- يَااااااااااااااااااااااا ااهْ ، أَمِيرَتِي، أَشْعُرُ بِأَنَّ مَمَالِكَ عِدَّة قَدْ تَوَالَتْ عَلَى رَاحَتِكِ الغَضَّةِ، إِنَّهَا عَالَمٌ قَائِمٌ بِحَدِّ ذَاتِهِ، لَيْتَنِي انْتَسَبْتُ إِلَيْهِ مُذْ وُلِدْتُ، لَكَمْ تَفِيضُ يَدُكِ بِالدِّفْءِ، هَلْ تَسْمَحِينَ لِي بِتَحِيَّتِهَا.
وَلَمْ يَنْتَظِرْ إِجَابَتِي بَلِ اكْتَفَى بِالنَّظْرَةِ التَّائِهَةِ الَّتِي دَاعَبَتْ نَظَرَاتِهِ . فَلَثَمَ يَدِي بِشَفَتَيِهِ بِرَقَّةٍ بَالِغَةٍ جَعَلَتْنِي أَشْعُرُ بِأَنَّ يَدِي قَدْ ذَابَتْ بَيْنَ شَفَتَيْهِ وَتَلَاشَتْ.
-هَلْ تَسْمَحُ لِي أَمِيرَتِي أَنْ أَعِيشَ وَإِيَّاهَا الحُلُمَ؟، وَأَنْ نَتُوهَ سَوِيَّةً فِي جَنَبَاتِ الخَيَالِ؟ أُرِيدُ أَنْ نَذْهَبَ فِي رِحْلَةٍ جَمِيلَةٍ فَهَلْ تُوَافِقِينَ؟
وَكُنْتُ عِنْدَهَا أَحْيَاهُ حُلُمًا رَائِعًا، فَلَمْ أَسْتَهْجِنِ الفِكْرَةَ، وَلَمْ أَتَرَدَّدْ بِالقَبُولِ.
-أَجَلْ فَلْنَحْلُمْ، إِلَى أَيْنَ سَتَأْخُذُنِي فِي الحُلُمِ؟
-نَحْنُ الآنَ عَلَى شَاطِئِ البَحْرِ يَا أَمِيرَتِي، وَبِانْتِظَارِنَا قَارِبٌ سَنَرْكَبُهُ، وَنَمْضِي فِي جَوْلَةٍ بَحْرِيَّةٍ هَادِئَةٍ يُرَافِقُنَا بِهَا اللَّيْلُ وَالْمَوْجُ فَقَطْ، وَسَأَحْمِلُكِ عَلَى ذِرَاعَيَّ إِلَى القَارِبِ لِأَلَّا تَبْتَلَّ أَطْرَافُ ثَوْبِكِ البَهِيِّ بِالمَاءِ.
وَعِشْنَا أَجْوَاءَ الرِّحْلَةِ بِالخَيَالِ فَانْطَلَقْنَا نَنْسِجُ الأَحْلَامَ دُونَ تَوَقُّفٍ. كُنَّا نَجْلِسُ فِي القَارِبِ وَالأَمْوَاجُ تُدَاعِبُ جَنَبَاتِ القَارِبِ مِنْ كُلِّ صَوْبٍ، وَكَانَتْ أَصْوَاتُ تَلَاطُمِهَا تُوحِي لَنَا بِالمَزِيدِ وَالمَزِيدِ مِنَ الأَحْلَامِ، وَكَانَ اللَّيْلُ يَهْمِسُ لَنَا بِالكَثِيرِ مِنَ الأُمْنِيَاتِ، وَكَانَ هُوَ يَتَغَزَّلُ بِعَيْنَيَّ وَشَفَتَيَّ وَمَلَامِحِ وَجْهِي، كُنْتُ أَجْلِسُ فِي طَرَفِ القَارِبِ وَأُغَنِّي أُغْنِيَةً لِفَيْرُوزَ " فَايِقْ يَا هَوَا " وَهُوَ يَسْتَمِعُ إِلَيَّ بِلَهْفَةٍ وَشَوْقٍ.
ثُمَّ وَصَلْنَا إِلَى الشَّاطِئِ حَيْثُ كَانَتْ جَزِيرَةُ نَائِيَةٌ بُنِيَ عَلَى شَاطِئِهَا، كُوخٌ مِنَ القَصَبِ جَلَسْنَا بِقُرْبِهِ وَأَوْقَدَ هُوَ النَّارَ، فَأَعْدَدْتُ بِدَوْرِي القَهْوَةَ لَنَا، وَجَلَسْنَا قُرْبَ النَّارِ فَأَوْسَدْتُ رَأْسِي كَتِفَهُ وَغَفَوْتُ.
اسْتَيْقَظْتُ مِنَ الحُلُمِ لِأَجِدَ نَفْسِي أُوْسِدُ رَأْسِي كَتِفَهُ، وَلِأَجِدَنَا لَا نَزَالُ نَجْلِسُ عَلَى العُشْبِ فِي تِلْكَ الحَدِيقَةِ الهَادِئَةِ تَحْتَضِنُنَا الأَشْجَارُ، وَالأَضْوَاءُ الخَافِتَةُ المُنْبَعِثَةُ مِنَ المَصَابِيحِ المُتَناثِرَةِ هُنَا وَهُنَاكَ. نَظَرْتُ إِلَى سَاعَتِي فَانْتَزَعَتَنِي عَقَارِبُهَا المُشِيرَةِ إِلَى السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ عَشْرَةَ لَيْلًا مِنَ الجَوِّ الحَالِمِ، وَنَهَضْتُ مُسْرِعَةً أُلَمْلِمُ أَنْفَاسِي وَكِتَابِي لِأَهُمَّ بِالرَّحِيلِ.
وَنَهَضَ هُوَ بِدَوْرِهِ مِنْ مَكَانِهِ عَارِضًا عَلَيَّ اصْطِحَابِي بِسَيَّارَتِهِ إِلَى المَنْزِلِ، لَكِنَّنِي رَفَضْتُ ذَلِكَ مُعْلِنَةً رَغْبَتِي بِالذَّهَابِ بِمُفْرَدِي.
أَوْلَيْتُهُ ظَهْرِي وَمَضَيْتُ، وَعِنْدَهَا غَزَتْنِي رَغْبَةٌ عَارِمَةٌ بِعِنَاقِهِ، فَرَكَضْتُ نَحْوَهُ وَعَانَقْتُهُ، وَطَبَعَ هُوَ بِدَوْرِهِ قُبْلَةً عَلَى جَبِينِي، وَانْتَزَعْتُ نَفْسِي مِنْ بَيْنِ ذِرَاعَيْهِ، وَجَرَيْتُ رَاكِضَةً. مُخَلِّفَةً وَرَائِي حُلُمًا جَمِيلًا يَسْتَلْقِي عَلَى تِلْكَ الأَعْشَابِ الغَضَّةِ، يُدَاعِبُ المَكَانُ تَفَاصِيلَهُ، وَتُحِيطُهُ الأَشْجَارُ العَالِيَةُ لِتَحْجُبَهُ عَنِ العُيُونِ العَاذِلَةِ، وَرَجُلًا هَادِئًا بِنَظَرَاتٍ لَامِعَةٍ يَنْطِقُ بَرِيقَهَا بِسَعَادَةٍ عَارِمَةٍ، وَلَا يَزَالُ طَعْمُ الحُلُمِ عَالِقًا عَلَى شَفَتَيْهِ كَتِلْكَ القُبْلَةِ الوَلْهَى الَّتِي وَسَمَ بِهَا جَبِينِي خَاتِمًا لِقَاءَنا.
تَحَرَّكْتُ فِي جَلْسَتِي عَلَى ذَلِكَ الكُرْسِيِّ الأَبْيَضِ، فَسَقَطَتْ قَدَمَيَّ عَنْ حَافَّةِ الشُّرْفَةِ، وَاسْتَيْقَظْتُ لِأَلْمَحَ بَعْضَ عُيُونٍ تَلْتَمِعُ فِي عُتْمَةِ اللَّيْلِ، تَلْتَهِمُنِي بِفُضُولِهَا، فَنَهَضْتُ مِنْ مَكَانِي ذَاكَ دَاخِلَةً إِلَى غُرْفَتِي، وَسَمِعْتُ عِنْدَهَا مُوسِيقَا تَأْتِي مِنَ الشُّرْفَةِ المُجَاوِرَةِ، وَصَدَى صَوْتِ السَيِّدَةِ فَيْرُوزَ تُغَنِّي:
لِمْ كُنَّا سَوَا
وِالدَّمِعْ سَهَّرْنِي
وَصَفُولِي دَوَا
تَارِي الدَّوَا حُبَّكْ
وْفَتِّشْ عَالدَّوَا