في زحام التنقلات بين الحصص والفصول- اختلست خمس دقائق ؛ فدخلت مكتب المدير - الذي آلفه وأتشرف بمن يعتلي كرسي رياسته - أقضي حاجة ، ولكن هذه المرة كان دخولي مختلفًا؛ فقد كان خاليًا من البشر، ونادرًا ما يخلو منهم وقت العمل على مدار الحصص اليومية.
داعبت ذهني فكرة، وخطر ببالي أن أجرب، فاندفعت نحو الكرسي أجربه، وأصبحت أنا المدير الآن...هِمتُ في خيالات بعيدة، وكأني غفوت، أو وقعت في واحدة مما تسمى "أحلام اليقظة"، رحت في زوايا بعيدة، وتمتمت بهواجس ، بعد أن أصبحت المدير والقائد في هذه اللحظة الحرجة؛ فعذرًا لوالدي؛ قد سمحت لنفسي أن أحتل مكانته في حياته، مندفعًا مشبوبًا بأوهام مستعجلة نحو أفق للمستقبل، لا أعرف : هل يكون بعيدًا ، أم قريبًا..!؟
وسرعان ما انتفضت من هذياني؛ فعدت إلى صوابي ، ولمست الواقع من جديد، وخشيت أن يفتنني هذا الكرسي(برغم تواضعه) إ ذا ما اعتليته يومًا، وجُبت بخاطري فنظرت أولئك الأعلين في الريادة؛ إن للكرسي تأثيرًا مختلفًا!
ذهبت هذه الفكرة، ولت من ذاكرتي القريبة، وأخذت موقعها بين ملايين من أخواتها تقبع هناك فيما وراء الذاكرة، في ذاكرة الشط الثاني، التي لا نصل إليها غالبًا إلا في منامنا؛ إذ تخرجها الأحلام، وكأنها تستدعي ماردًا من قمقمه.
الآن أطوف من جديد... ألتقط بأم عيني مشاهد من حولي، تأملتها في هذا المكتب من قبل، لكن هذه المرة يبدو أن نظرة أخرى قد انتابتني، وشعور غريب أصبح يخالجني، وقعت عيني على اللوحات الإدارية المعلقة على الجُدُر، جذب انتباهي هذه اللوحة، التي اعتنى بها الخطاط يومًا؛ يزخرفها ،ويزينها، ويسجل بها أسماء المشتركين في "مجلس الآباء"، لمحت هذا الاسم المشع تنبيهًا لأسماعنا من جديد، اسم المدير، يعتليها ويذيلها،فرحت جدًا باسمه والدي ومديري، ورحت أبحث عن نفسي؛ فلم أجد!
هنا... تذكرت كلمة طالما رنت بمسمعي؛ كان الزملاء القدامى يتحفوني بها متى تشدق كل منا وراح ينتصر لنفسه في حديثه،" مازلتَ تُوقع بالقلم الرصاص!"؛ وكأنهم يحملوني ذنب اجتهادي وحرصي عليه؛ وكأنهم يحملوني أطنانا من فساد متراكمة عبر حُقبٍ سحيقة ماضية، لم يكن لي ذنب فيها غير أني ولدت فيها ونشأت وترعرعت، وتعاقدت على شفا حرف من الفسخ والتهديد!!!
كنت أعود بعد كل مرة لهذا الرمز الجميل في حياتي"والدي المدير"؛ كثيرًا ما كان يلهمني الصبر وجودُه، وكانت مكانته تسد لثمةَ قلبي وكياني الكليم من مثل هذه الأحداث.
لكني عدت وسألت نفسي من جديد: يا والدي ومديري، هل أنت تكفيني؟؟!
لم أجد بدًا من الخروج؛ فالحصة قد بدأت، ولدي واجب أؤديه؛ وأرجأت تساؤلي لتجيب عنه الأيام..!