اذاً هناك ازدواجية مُهلكة بين المَخفى والمُعلن ، كما وصفَ البنا العلاقة بين التنظيم الخاص والجماعة أنها كالعلاقة بين " الوَرْشة " و" المَعْرض " ، التى جعلتْ التنظيم الخاص يستفحل ويُغرق الجماعة قديماً ، فلا أقل من سعى قائده للزعامة العامة بعد الخاصة ، كما أقر القيادى الاخوانى محمود عساف ؛ بأن السلطة التى كان يتمتع السندى حولته من رجل دعوة الى رجل عنف بدءاً من حادث الخازندار ، وبعد استشهاد البنا تطلعَ الى الزعامة ونافسَ المرشدَ العام .
تلك الازدواجية انعكستْ – كما أسلفنا – على وضع الجماعة ومرشدها بعد وصولها للسلطة حديثاً ؛ فكأننا أمام مشهد متطور لثنائية النظام الخاص والجماعة ؛ حيث سادتْ قناعة حتى عند المُؤيدين أن هناك " مَعْرض " فى الاتحادية ، يُدار من " ورشة " بالمُقطم .
وبالتشبث غير المُبرر بالتنظيم حتى بعد الوصول الى السلطة وزعامة الدولة ، وضحَ أن التنظيم قائم لأبعد من الوصول الى حكم مصر ، وأنه باق لتحقيق غايات أكبر وأهداف أشمل ، وأن التنظيمَ صارَ غاية فى حد ذاته ؛ تماماً كما علق عساف على اغتيال عضو التنظيم الخاص السيد فائز وشقيقه بعلبة الحلوى المُفخخة ؛ حيث " انحرف النظام الخاص وأصبحَ وجودُه غاية فى حد ذاتها " .
هل التنظيم غاية فى حد ذاته أم أنه وسيلة لتحقيق هدف ما ، فاذا ما تحقق الهدف انتهت مهمته وصارَ لزاماً تفكيكه وحله ؟
تلك ازدواجية لابد من حلها والاجابة على جميع أسئلتها ، ووضع تصور مستقبلى يحدد المدى الزمنى لوجود الجماعة وأهداف وجودها ، ومتى تستمر ، ومتى تتفكك تلقائياً بيد ذويها قبلَ أن تتحول الى نقمة على الدعوة والوطن معاً .
من دروس تجربة عبد الناصر التى يجب على الفريق السيسى تحديداً أخذها فى الاعتبار ، خاصة وأن المشهد السياسى يتصدره حالياً دستورياً وتنفيذياً رموز ليبرالية ويسارية فى غالبها الأعم ، أن عبد الناصر حرصَ على التخلص من أية ازدواجية ، وكان واضحاً وأحادياً وشفافاً حتى وهو يُصفى الديمقراطية ويجتز الأحزاب .
هو أهدرَ قيمة الديمقراطية وكان ذلك أسوأ ما فى عهده ، لكن لم يصحب ذلك اضطهاد دينى أو استهداف على الهُوية أو ملاحقة لذوى الاجتهادات المناهضة ، انما كان القمعُ فقط مصيرَ الداعمين والمخططين والضالعين فى انشاء تنظيمات سرية سواء مدنية أو داخل الجيش بغرض الاستيلاء على السلطة .
ولم يتشدق عبد الناصر بديمقراطية مفقودة لا وجودَ لها ، ولم يدعِ أن نظامه ديمقراطى على غير الحقيقة ، كذلك – وهذا هو الأهم – لم يسمح باقامة ديمقراطية شكلية بانشاء بعض الأحزاب ونظام برلمانى مظهرى ليتم الترويج دولياً ومحلياً لديمقراطية النظام ، الذى هو فى الواقع عدو للديمقراطية ، ينكل بمعارضيه ويضيقُ بمخالفيه .
ازدواجية أخرى تخلص منها عبد الناصر ؛ فبعد اعادة الهضيبى تشكيل النظام الخاص بالمخالفة لطلبه قامَ بحل جماعة الاخوان ، وهى أقسى عقوبة من الممكن أن يُوقعها أحد بكيان ما ، لكن عبد الناصر تدارك لامتصاص ردود الأفعال وأرسلَ رسالة للقيادات القديمة للاخوان وللشارع السياسى المصرى أنه فى صراع فقط مع قيادة الهضيبى وليس مع الاسلام أو منهج الاخوان ، أى أن صراعه مع الاخوان صراع سياسى وليس دينياً ، فتوجه بعد أيام من اصداره لقرار حل الاخوان الى قبر حسن البنا وفى رفقته عدد من أعضاء مجلس قيادة الثورة ، وفى مشهد تاريخى وقف عبد الناصر أمام القبر ليخطب مناشداً قواعد الاخوان أنه لم يكن أبداً نقيضاً للاسلام وليس لديه ما يدعو اليه غيره ، وأنه جندى مخلص من كتائب الدعوة الاسلامية والنهوض بأوطانه " .
حلَ الفريق السيسى جماعة الاخوان للمرة الثالثة فى تاريخها ، وهو مُطالَب بالوضوح التام فى سياق اثبات أنه فى صراع فقط مع مرسى وليس مع الاسلام أو دعوة ومنهج الاخوان ، ليس بزيارة قبر البنا ، انما بخطوات عملية مؤثرة تدعم حضورَ الاسلام الوسطى وترضى ذائقة المصريين الروحية ونزعاتهم الايمانية .
تجربة عبد الناصر وما فيها من وضوح واصرار على الطريق الواحد الصريح دون الاحتراق بأية ازدواجية ، فيها دروس مهمة لقيادات المؤسسة العسكرية وللاخوان المسلمين معاً ، وهذا ليس معناه أن عبد الناصر كان على حق ، لكنه سارَ فى الطريق الذى أهله للاستمرار .. انه طريق الوُضوح .